يمكنك أن تكتب عن الشهيد عمر بنجلون تحت عناوين عدة: عمر والأيديولوجيا، أو الفكر السياسي، أو العمل النقابي، أو المسألة التنظيمية، أو الأخلاق السياسية، أو عمر الشعبي، بل عمر والشهادة… إلخ.
في كل هذه العناوين، وغيرها، تجد أن لعمر فرادة جاذبة، لا يتميز بها إلا القائد الكارزمي، والذي يعبر عن مرحلة عضوية عميقة في تاريخ شعبه. وإن كنت قد اخترت من بين كل تلك العناوين موقف عمر ورؤاه للمسألة القومية، فلأني أحسست أن النخبة المغربية، التي خص لها عمر في أعقاب هزيمة 67، مقالة نقدية جذرية (نشرها بالفرنسية في مجلة أنفاس)، كشفت عن مصادر ثقافتها القومية الهجينة، وعرت عن غربتها وانخلاعها عن قضايا أمتها.. تعود اليوم القهقرى لنفس الوعي المغترب والمُغرب، بعدما حسبنا أننا تخطيناه بغير رجعة.
لقد كان الشهيد عمر مناضلا قوميا بامتياز… لكن بأي معنى، وبأي تصور؟ هذا ما سأحاول ملامسته في بضع كلمات، مع أن الموضوع سيحتاج لاستفاضة وعرض منهجي ومفصل.
والحق، أني لم أجد التعبير المناسب لما خالجني من مشاعر، وأنا أكتب عن هذا القائد القومي، في موضوع ساجلته وشاكسته فيه كتابة وشفاهيا، لمرات ومرات. وكل ما أستطيع قوله، أني تعلمت الكثير والكثير من هذا المناضل الفذ. وللأسف، فإني مضطر، في هذا الحيز الضيق، أن أخلع عن الأطروحات التي سأقدمها حرارة اللحظة والتباسات الوقائع التي اكتنفتها.. ومع ذلك، فإني أعتقد أن أفضل طريقة للإطلال على خصوبة مواقف الشهيد، وغناها، وواقعية وعقلانية جدليتها، أن أقرأها في علاقتها بما كان عليه التفكير القومي ليسار السبعينيات، والذي كنت منه، وساجلت من موقعه ورؤاه. وقبلها، أريد البدء بالتلميحين التاليين:
– أولا: بالرغم من أخطاء التطرف التي شابت مواقف اليسار السبعيني في القضايا القومية، كما في غيرها، فإن مأثرته الكبرى، أنه رفع الوعي العروبي، العفوي، الناتج فقط عن الشعور التلقائي بالإنتماء الى الأمة العربية، إلى مستوى الوعي القومي.. وهو غير الأول، من حيث أنه رؤية تحاول أن تدمج بين قضايا التحرر الوطني وقضايا التحرر القومي، على المستويين الاستراتيجي والممارسة العملية.
وفي اعتقادي، إن ذاك كان التقدم الكبير الذي أحرزته، أو سارت على دربه، النخبة المغربية عموما في ما بعد الهزيمة، والذي بدأ يخبو ويتم التراجع عنه في هذا الزمن العربي الإقليمي وما دون الإقليمي.
– ثانيا: لابد من التأكيد على أن القومية التي يستهجن لفظها في هذه الأيام، ليست في التعريف الأخير، سوى المحصلة التاريخية لحركات نضال الشعوب العربية من أجل بناء أفضل شكل مؤسسي وأرقاه، والذي يحقق وحدتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بما يؤهلها لتخطي كل معيقات التخلف والتبعية والتأخر، وبما يمكنها من المساهمة الفاعلة والفعالة في بناء الحضارة الإنسانية.
ومن نافل الإخبار أن العصر هو عصر التكتلات الكبرى، وفي أولها وأساسها التكتلات القومية. ولذلك، لا قيمة علمية لذلك الاستهجان والتحقير لدى بعض التوجهات إزاء المسألة القومية، الواردة إما من ترجمة سيئة لحمولات اللفظ في تجارب قومية غربية، تخطت مرحلة الوحدة القومية وغدت قوميات عنصرية أو استعمارية، وإما من تحميل الحركة القومية العربية التي هي مسار تاريخي متنوع، عيوب أو فشل إحدى تفريعاتها لفترة تاريخية محددة.
إن الذين يعادون القومية العربية اليوم، بذرائع مختلفة، وصلت أحيانا الى عنصرية داخلية مضادة، يلعبون في الواقع دورا رجعيا حتى ولو رفعوا عاليا رايات الحداثة والتعددية والعقلانية وكل الأقنعة المرادفة الأخرى…
لننتقل إذن إلى تبيان أطروحاتنا المختزلة عن مواقف الشهيد عمر من المسألة القومية:
– أولا: كان يتبرم من استعمال مقولة الثورة العربية المتداولة في خطابات اليسار القومي بمختلف مدارسه وقتذاك. فكثيرا ما وضع هذا المفهوم بين مزدوجين دالين على تحفظه منه، بل وعلى استخفافه به أحيانا.. والأرجح أن عمر كان يخشى على الحركة القومية من نوازع التبسيطية الميكانيكية المتفشية آنذاك، والتي كانت تقفز على خصوصيات الأوطان العربية، فتعدم تفاوتاتها، وعدم تكافؤها، حتى ولو تقاطعت في نفس المهمات التاريخية الكبرى المطروحة على حركات التحرر في كل منها.
ما عدا هذا الاحتراس المنهجي العمري الشديد الأهمية، والذي كان يمنع من الوقوف عليه الهيجان الأيديولوجي اليساري حتى لدى التيارات الأكثر تبصرا واعتدالا، يحتفظ المهفوم مع ذلك بقدر كبير من العقلانية والنصاب العلمي، ذلك أن انجاز مهمات الوحدة بين البلدان العربية، أو بين بعضها، هو في ذاته عمل ثوري، بما تعنيه الثورة من تحويل تقدمي نوعي للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ومن تقدم مطابق ومفترض في وعي وفاعلية النخبة و الجماهير الشعبية معا. فالثورة، كيفما قلبنا وجهها، هي وعي وفاعلية، أكثر مما هي دينامية لقوانين موضوعية تلقائية. ولا أدل على ذلك، من أن تراجع الحركة القومية اليوم لم يؤد إلى انحباس وتائر النمو وأنماط التنمية لدى افضل التجارب الوطنية القائمة وحسب، بل جر معه وولد انهيارات وانكسارات للعديد من الكيانات الاقليمية القائمة، ووضع الجميع في حالة ضعف شديد أمام متطلبات وتحديات العولمة الجارية وسياسات الهيمنة والاحتلال.
– ثانيا: كان عمر يرفض استنساخ مقولة الصراع الطبقي في المجتمع الفلسطيني وفي تحليل تناقضات ثورته الوطنية التحررية، سواء لجهة ان للمجتمع الفلسطيني خصوصيات شاذة ينفرد بها عن النموذج العام للمجتمعات الاخرى، لأنه يعاني من احتلال استيطاني توسعي فريد من نوعه، ومن تشتيت وتمزيق مضطردين لوحدة بنيته المجتمعية، وسواء لجهة ان مقولة الصراع الطبقي نفسها كان ينبغي ان يعاد عجنها وسبكها ضمن واقعة التخلف والتبعية، وبالتالي كان ينبغي اخضاعها لمقولة أعلى هي مقولة التحرر الوطني، وأيضا لأن ليس كل تراتبية اجتماعية تستولد بالضرورة صراعا طبقيا.
ومن هذا المنظور الذي يضع مهمات التحرر الوطني فوق كل اعتبار آخر، كان عمر يتعاطى بليونة كبيرة وبصبر وبعد نظر، مع كل التناقضات الداخلية، أكانت ايديولوجية أو سياسية أو تكتيكية أو تنظيمية… فحركة التحرر الوطني في نظره تقبل وتتسع وتزخر موضوعيا بشتى الخلافات والتناقضات، وعلى المرء ان يتعامل معها بكياسة وروية وبعد نظر، ما بقي الهدف الاستراتيجي واضحا وموحدا للجميع.
كان هذا ديدنه في كل قضايا التحرر وفي أي مكان كانت. وإذا فضل لي من تعليق ما على هذه الرؤية التي أثبت التاريخ كل صوابها الجوهري، فليس لدي الا أن أدين التسطيح الفكري والسياسي الذي بلغ أوجه في هذه الفوضى الايدلوجية العارمة التي ألمت بنا اليوم. وسأكتفي بقول شديد الاختزال ودال المعنى: لا حركة فتح ولا حركة حماس يمكن ان نختزل أيا منهما في موقف قيادة أو في موقف تيار معين، ولا في تكتيك محدد، ولا حتى في المرجعية الايدلوجية، إذ كلاهما في المبتدأ والخبر أوسع وأكبر من ذلك، لأنهما معا تعبيران عن دينامية حركة التحرر الوطني الفلسطينية، ولا مناص من أن تحكمهما ثوابت الشعب الفلسطيني وإرادته.
– ثالثا: لم يكن عمر يستسيغ ان ينشغل اليسار الفلسطيني والعربي بقضتين اعتبرهما اشكاليتين مغلوطتين من شأنهما ان يحرفا أنظار اليسار العربي والثورة الفلطسينية عن الهدف الاستراتيجي الحق، ألا وهو التحرير والتحرير فقط! القضيتان اللتان شغلتا الفكر الاستراتيجي اليساري في حينها هما: من جهة مشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الموحدة التي سيتعايش فيها الشعبان الاسرائيلي والفلسطيني، ومن جهة ثانية، القراءة التأويلية المسبقة للاستراتيجية الاسرائيلية، والتي رأت فيها ان هدفها الفعلي هو عقد اتفاقات سلام دائم مع الانظمة العربية المهزومة على حساب القضية الفلسطينية.
ليس من واجب الثورة الفلسطينية، ولا من واجب العرب، أن يفكروا ويجدوا الحل للمسألة الاسرائيلية، فواجبهم الوحيد، ان يناضلوا من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وينالوا كل حقوقهم المغتصبة. أما مآل الشعب الاسرائيلي فالتاريخ كفيل بالاجابة عليه، عندما يتم تأكيد حق الشعب الفلسطيني في اراضيه المغتصبة.
هكذا تكلم عمر، وهكذا كان تفكيره مع ثلة من القوميين العرب التقدميين.
وبقراءة اليوم لمآل التراجعات التي أصابت الحق الفلسطيني، وبالرغم من ضخامة خصوصيات القضية الفلسطينية التي فرضت على الضحية ان يفكر ليجد مخرجا للجاني المغتصب، فإن موقف عمر يظل من الناحية المنهجية والتاريخية الاكثر صوابا والاشد منطقية.
ومع ذلك، ينبغي القول إن ما نالته اسرائيل من اعتراف بكيانها دوليا وعربيا وفلسطينيا، لا يشكل بتاتا ضمانة أخيرة لشرعية تاريخية نهائية، حتى ولو كان الاعتراف العربي ضرورة آتية فلأجل في الافق البعيد بحكم طبيعة الصراع نفسه، سوى بنهاية كاملة لكل المشروع الصهيوني.
– رابعا: من الناحية المنهجية أيضا، كان عمر على صواب جوهري، عندما نبه لخطورة أن يبني اليسار العربي والفلسطيني استراتيجيته وتكتيكاته السياسية على تأويل مسبق للاستراتيجية الإسرائيلية، مؤداها أن معاهدة سلام وشيكة الوقوع بين الأنظمة العربية واسرائيل، بينما لم تكن بواعثها ناضجة بعد.
ونتيجة لهذه القراءة التأويلية المغلوطة، اختلط لدى اليسار العربي أمران في غاية الخطورة:
1- لم تكن استراتيجية اسرائيل أبدا استراتيجية سلام، ولا هي كذلك حتى اليوم. إذ ينبغي ألا ننسي ان اتفاقية السلام الأولى، التي عقدتها مع مصر- السادات، جاءت بعد حرب أبان فيها المصريون والعرب على قدرات ذاتية هائلة، كان من شأنها ان تبطل التفوق الاسرائيلي لولا الإدارة السياسية لنتائج حرب اكتوبر الانتهازية والاستسلامية. الطبيعة العدوانية التوسعية كانت ومازالت هي الطابع الرئيسي للسياسة الاسرائيلية، فلا شيء يمكن تقديمه للفلسطينيين وللعرب ما لم يستحقونه وينتزعونه بموازين قوى لصالحهم.
ذاك هو الدرس الحي الذي كان ولا يزال قائما إلى اليوم!
2 ـ وبتحليل طبقوي واقتصادوي للانظمة العربية الوطنية، وبالاخص للنظام الناصري، تم طمس واستصغار الدور التاريخي النهضوي لزعامة عبد الناصر، ولجهوده المظنية، وإلى آخر رمق، في استجماع النفس القومي من أجل مواصلة المسيرة واسترجاع الحقوق العربية المغتصبة.
لم يفطن اليسار لذلك إلا بعد أن فات الأوان، وبعد أن زجت به مواقفه في حمى مواجهات ومزايدات اضرت به وبالقضية القومية والفلسطينية على حد سواء.
وهناك لا يمكن للمرء إلى أن يسجل بتقدير وإعجاب كبيرين مواقف عمر ووعيه الحاد بدقة المرحلة، واستيعابه النافذ لسياسات عبد الناصر، ثم لاستشعاره المبكر، وفي الوقت المناسب، لبوادر الانقلاب الساداتي على التراث القومي النهضوي الناصري.
وأخيرا، هذا قليل من كثير، وهو حتما لا يشفي الغليل في ما نريد ان نعرفه عن فكر عمر القومي، لكن مهما كانت فائدة هذه الإطلالة الخاطفة، فالشيء المؤكد أننا نستطيع أن نكتب ونكتب ونتوسع ونفصل. لكننا سنعجز حتما على وصف ذلك الصدق الذاتي لدى عمر، وحرارة وجدانه القومي، وصفاء ضميره، وإيمانه المطلق بقضيته، إذ، في هذه الجوانب الذاتية، تعجز ألفاظي وكل الألفاظ، فلا يسعني إلا أن أقول بكل تواضع وخشوع واجلال: لقد علمتني الكثير والكثير، فإليك مني في ذكراك تحية الخلود يا أشرف الناس.