بقلم سعيد جعفر
النقاش الدائر حول “الشيخة” نقاش ايديولوجي عميق ويعكس ماضيا
مريرا من السعي الدؤوب لرجال الدين والكهنوت لتحييد كل من يمكن من جهة كسر هيمنتهم ووصايتهم على المجتمع، ومن جهة أخرى تهديم كل دفوعاتهم وخطاطاتهم في إخضاع الأفراد والعقل البشري.
حدث هذا عند الإغريق وفي العصر الوسيط ويحدث اليوم في المجتمعات التي لم يقع فيها فصل فعلي بين الديني والسياسي ولا زال رجال الدين يلعبون فيه وصاية مشبوهة على القيم.
وحالات القتل المادي لفلاسفة وعلماء وعالمات وطبيبات وحتى رجال دين معتدلون أبرز نموذج على ذلك.
الهجوم على الشيخة من طرف واحد من الدينيين لا يعزل عن هذه الحقيقة التاريخية التي تهدف إلى تحييد كل الأفراد الذين يملكون سلطة التأثير في الناس والتغلغل في عمق الطبقات الشعبية والتعبير عنها، وفي هذا المستوى بالضبط يجب فهم هذا الهجوم الكبير المدعوم ايديولوجيا واعلاميا.
الشيخة تملك سلطة تأثير واستقطاب خاصة وبإمكانها حشد الناس بكل فئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم للأعراس وحفلات الختان والتوظيف وللمواسم، وهي التي تملك سلطة تحديد إيقاع النشاط والفرح وتوجهاته تخضع لذلك المتفرجين والجوق المصاحب لها وأصحاب العرس أو الفرح، فهي تملك سلطة رمزية حاسمة.
وبالمقابل فالشيخة عنصر عضوي في دمقرطة الموسيقى والفرح وجعله في متناول المنبوذين والمقهورين والمسحوقين والفقراء والفئات الشعبية، وبقدر ما تنجح في ولوج هذه الفئات للموسيقى والفرح بقدر ما تملك سلطة وقانونا خاصين في تدبير مجال العرس والقصارة وطقوسهما الروحانية، ولا تحتاج لدموع وترهيب وتوظيف المشترك الديني لاستئثار دعم الجمهور كما يفعل رجال الدين، فالشيخة يتم مكافاتها لزرعها الفرح وكفاءتها في إفراح وإمتاع الناس، وعبثا حاول رجال الدين شيطنتها وعبثا يخيب ظنهم عندما يجدون الأجيال المتعاقبة مرتبطة بها.
وهنا مكمن القسوة التي عامل ويعامل بها الأوصياء على الدين الشيخة، فهي تشكل خطرا حقيقيا على مجال نفوذهم وتأثيرهم وتدمر كل جهودهم في تخويف الناس من الدنيا الفانية وعذاب القبر والمحرمات وأعمال الشيطان التي يدخلون فيها قسرا الفرح والسعادة والفن والحب.
الشيخة نقيض موضوعي اذن للمتاجرين بقيم الخوف والرهبة والعذاب والتقتير، وهي منافس طبيعي لرجال الدين في التأثير والنفوذ القيمي،
وبشكل ما فهي تحطم بشكل تلقائي ونافذ كل مسلماتهم ومنطلقاتهم وخطاباتهم وتشكل منافسة موضوعية في مجال نفوذهم القيمي.
ولا يختلف تأثير الشيخة هنا عن التأثير الذي مارسه المتنورون في النهضات الكبرى عند الإغريق وأوروبا الحديثة والنهضة العربية والنهضة المغربية.
وهو ما تفسره الهجومات والمحن التي تعرض لها الحكماء الطبيعيون والفنانون في بداية عصر النهضة والطبيبات اللواتي اتهمن بالسحر والشعوذة في أوروبا والسلفيون الإصلاحيون والوطنيون الذين تعرضوا لهجومات كبيرة من شيوخ الزوايا خصوصا.
يكفي العودة للتاريخ المعاصر للمغرب لبيان كيف انتصب شيوخ الزوايا ضد إصلاحيو الحركة الوطنية المشتبكين بالشعب والذين اضطروا لاقتسام صفة شيخ لمزاحمة شيوخ الزوايا في مجال نفوذهم.
نقطة ثانية مهمة قي هجوم واحد من الدينيين على الشيخة، وهو كونها امرأة، وبقدر ما يعكس ذلك استمرار غير مفهوم واقعيا وسياسيا للعقلية الذكورية، فهو يعكس أيضا هذا الخوف المرضي من المساواة بين الرجال والنساء وبين المنافسة على قاعدة التكامل والكفاءة.
سيستمر الدينيون في استنزاف حظوظنا في الانخراط السلس في حركية التاريخ، وسيستمرون في جر المجتمع لنقاشات عقيمة وغير منتجة وعبثا سيحاولون أمام تحول عميق يمس بنية الحكم وينعكس على البنى الاجتماعية وعلى خطاطة القيم.
لقد كان كل أمل المحافظين وخصوصا المتمترسين على هامش الخطاطة الدينية الرسمية أن تستمر الدولة وفية لعقيدتها في الحكم القائمة على توازن صلب بين التقليدانية والحداثة، وهو ما يغذي حظوظ المحافظين ويوفر لهم مزيدا من الحظوة والزبناء في المجتمع السياسي والشعبي، لكن التحولات المتسارعة، وسعي المملكة الدؤوب لتكون قوة صاعدة وانخراطها في مخططات تصنيع متشابكة وما تفرضه من تحديث ذهني وسلوكي في المجتمع ومن إرادة لتحرير عقل وتفكير الأفراد بدمقرطة اللغة والعدالة اللغوية (القانون الإطار للتربية والتكوين) والعدالة الاجتماعية والصحية(السجل الموحد، الرعاية الاجتماعية)، ودمقرطة الولوج للفنون والموسيقى(المجلس الوطني للثقافة والفنون، متحف الفن المعاصر)
تجعلهم يخسرون مواقعهم وحظوظهم في التأثير، وبالتالي تبدد رأسمالهم في الوصاية على المشترك وعلى القيم.
وبقراءة فاحصة لسلوكهم في عشرين سنة الأخيرة لا يمكن فصل موقفهم من الفن النظيف والسينما النظيفة!، وموقف عرابهم بنكيران من التعليم باللغات ومعركته الوهمية من أجل اللغة العربية، وموقف جناحهم الدعوي من الحريات الفردية ومن العلاقات الخارجية، ودفاع الرميد عن مدارس عتيقة ثبت لاحقا تخريجها لمتشددين سيزجون رأس سائحتين بريئتين، إلى التشويش الذي أحدثه عشاب ضد جهود الدولة في محاربة كورونا، وصولا إلى ما يقوم به مدرس للغة الفرنسية لا باع له في علوم الدين ولا حظ له في سماحة الإسلام وواقعية مقاصده من هجوم خلفي ضد جزء من النسيج الإجتماعي ممثلا في التراث اللامادي وتمغربيت، عن حالة الهزيمة النفسية والتمزق والخوف الكبير الذي ينتابهم من ضياع آخر الاحتياطات في رأسمالهم السياسي ووجودهم الإيديولوجي.
تعليقات الزوار ( 0 )