بقلم صابرين المساوي
أين نهاية الفكر الاشتراكي وأين أولئك الذين أبوا إلا أن يلصقوه بقاطرة الماركسية، تلك الماركسية التي كلما صبت مدام خمرتها حتى تستساغ شرابا سلسبيلا كلما كانت سما زعافا في الواقع؟
إن كل الأجوبة في هذا المجال مقنعة، حتى الاشتراكيون أنفسهم، فإن أجوبتهم إرضاء لعاطفة نرجسية أكثر منها طرقا لأسئلة المعرفة، إنهم يقولون: لأننا في اتجاه حركة التاريخ، لكن هل يتقدم التاريخ دائما إلى الأمام؟ ما معنى حركة التاريخ؟ ألم يقل النازيون والفاشيون نفس الشيء؟ أكيد، شتان بين إيديولوجية ذات بعد وجذور طوباوية تستهدف تحرير الإنسان وإيديولوجية استعبادية أنانية اقطاعية. كل ما يمكن قوله في هذا المجال؛ أن الفكرة الاشتراكية ولأنها تنبثق وتتفتق هنا وهناك عبر أنحاء المعمور، فإن هذا يعني في نهاية المطاف أنها محملة بهذه الطاقة التي لا تنضب، طاقة الإشعال الدائم لهذه النار المقدسة بين جوانح الإنسان، نار تجاوز ظرفه الإنساني البائس إرثه الصدىء.
في كل منعطف كان الاشتراكيون حاضرين وكانت شعاراتهم تجد صداها العميق عند القوى المرشحة لاحتلال الصدارة في مجتمع التغيير والإنتاج : تشددهم فيما يتعلق بالحريات العامة ، استنكارهم العنيف لكل ما يمس كرامة الفرد …الدفاع المستميت عن دولة المؤسسات الضامنة للعدالة والمواطنة …ولأن هذه المواقف كانت تغذي الحقل السياسي في مجمله ، فإن الاشتراكيين لم يكونوا دوما وأبدا في المعارضة ، ولكن أيضا في سدة الحكم كلما دفعتهم صناديق الاقتراع إلى ذلك ، أو تحالفات مدروسة مسبقا في إطار استراتيجية محددة سلفا، هنا قوتهم الحقة وسر تقدمهم واختراقهم الصفوف ، لقد كانوا يعلمون علم اليقين أن البرامج مهما كانت لامعة ومجندة وملهمة ، فإنها إذا ظلت حبيسة مظاهرات ولافتات وهتافات ، فإنها لا تلبث أن تذبل فاسحة المجال لسياسة الخصم وديماغوجية الخصم .
هكذا ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية رأينا الاشتراكيات الديموقراطية تقفز إلى السلطة بجانب القوى الليبرالية والديموقراطيات المسيحية في فرنسا ، كما في بلجيكا ، كما في ايطاليا وألمانيا الغربية ، لكن هذه المرحلة لم تلبث أن ولت عابرة حاملة معها حرارة التجربة، كانت الاشتراكية تدخل مرحلة التقلص ، مرحلة الرأسمال يبرز أنيابه المتوحشة، يؤازره الرأسمال الأمريكي مثلما حدث في انجلترا مع تاتشر ، تلك المرأة الحديدية حقا ، والتي أعطت للمجتمع الانجليزي فرصة رائعة في أن يكتشف هول الثمن الذي عليه أن يدفعه نتيجة سياسة الباب المسدود ، نفس الشيء كان يجري بهولاندا ، باسكندنافيا ، في فرنسا بعد دوغول وبومبيدو ، كان جيسكار متبصرا ، وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن الاشتراكيين وحلفاءهم الشيوعيين عليهم أن يستعدوا لاجتياز قفار مائة عام من العزلة ، لكن تحولات كبيرة كانت تجري على الساحة الأوروبية ، وكانت معالم الأزمة قد بدأت ترسم ملامحها الكاملة على جبين طوابير العاطلين ، وبدت خطب اليمين كأنها للاستعراض والعرض لا لطرح حلول جديدة . في هذه اللحظة الحرجة كان ميتران يعتلي كرسي الجمهورية، وبدا كأن تيارا عاصفا ينطلق من باريس يرفع كونزاليس بمدريد إلى الوزارة الأولى وكذلك الأمر في أثينا لصالح باباندريو وروما لصالح كراكسي.
هذه الانتصارات كانت تحيل بالطبع لتحولات اجتماعية واقتصادية على مستوى المشهد الجغرافي الأوربي، ولكنها كانت تحيل أيضا على التحولات في البنية الإيديولوجية للأحزاب الاشتراكية نفسها، كانت تتخلص من قيد الحليف الشيوعي، تراهن على دمقرطة المجتمع وتتبنى على المستوى الاقتصادي براغماتية نفعية وحسا تاكتيكيا على المستوى السياسي.
هذا البعد البراغماتي هو الذي بتفاعله مع محيطه ومع تطور البنى المؤسساتية الوطنية والظرفية الاقتصادية الدولية، أعطى شخصيات جديدة تتسم بالدينامية والذكاء السياسي وحس العلاقات الاجتماعية وفلاحة الشخصية الفاتنة إعلاميا، هذا الجيل مثله بامتياز جوسبان وبلير وشرودر، لكن لا يجب أن يغرب عن بالنا هذين الأخيرين، إضافة إلى الخصال الآنفة الذكر، فإنهما حققا نصرا مؤازرا ضد المحافظة، في حين أن انتصار جوسبان ونظيره الإيطالي يعود لتدهور وتفسخ الزعامات المحافظة.
ليس سرا أن الرأي العام الغربي الذي يقدر في زعمائه نبل طموحاتهم الاشتراكية، فإن بودلو يراهم يطبقون إصلاحات ذات خلفية رأسمالية ليبرالية تعطي الثقة للمستثمرين والمنتجين والعاطلين، وتشجع على المبادرة أصحاب الرأسمال، فلا الفرنسيين ولا الاسكندناف ولا الانجليز ولا الألمان يودون تحولات اقتصادية جذرية، لا أحد يعلم لا أي اضطراب ولا أي خلل قد تأتي به. إن الرأي العام يحلم برؤية اشتراكية أكثر إخلاصا بحسهم الأخلاقي للفكرة الليبرالية المستنيرة، من هنا محاولة الاشتراكيين تجرع الكأس الليبرالية، من هنا دفاعهم المستميت عن اقتصاد السوق، وليس سوق الاقتصاد، كما كان يقول جوسبان اوبلير ، من هنا تعبئة وتجنيد الآلية الألمانية من طرف شرودر ، ومن هنا خاض الاشتراكيون الديموقراطيون في اسكندنافيا باسم التقشف وتطهير المالية العمومية ، وكذا في هولاندا ، حيث خاض الاشتراكيون معركة إنجاز سياسة تشغيلية جنبا إلى جنب مع خصومهم الرأسماليين .
قد يقول قائل ماذا تبقى من الفكرة الاشتراكية أمام كل هذه التنازلات؟ أقول: تبقى فكرة الديموقراطية في بعدها الاجتماعي الحمائي ، يبقى التشبث بالدولة الحاضنة والحامية للاختلاف والمساواة ، يبقى التشبث بفكرة اقتصاد السوق أداة إغناء للمجتمع لا وسيلة احتكار وإغناء كمشة من الطفيليين والاحتكاريين ، يبقى الدفاع عن علاقات متميزة مع العالم الثالث ، تبقى الحرب العشواء ضد الدكتاتوريات والحروب الاجرامية التي تمارس في حق الانسانية …
إن الاشتراكية قبل كل شيء فلسفة سياسية تزوجت مطامح اجتماعية وتاريخية، إنها مناضلين ومفكرين وأحزاب سياسية ومعركة طويلة الأمد والنفس، إن اشتراكية الأمس ليست قطعا اشتراكية اليوم وهذه لن تكون بتاتا اشتراكية الغد.
تعليقات الزوار ( 0 )