تصورنا لإصلاح التعليم العالي ينطلق من الإيمان العميق بدوره المركزي في تقدم البلاد وبناء مؤسسات ديمقراطية ومجتمع حداثي تسود فيه العدالةُ الاجتماعية
يلامس هذا الحوار، الذي أجرته جريدة «الاتحاد الاشتراكي» مع جمال الصباني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي، بمناسبة الدخول الجامعي لموسم 2018 -2019، عددا من القضايا التي تهم قطاع التعليم العالي انطلاقا من المؤتمر الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العالي ومميزات الدخول الجامعي الحالي، مرورا بواقع هذا القطاع الحيوي بالبلاد والإشكالات الكبرى التي تعوق تطوره وتقدمه، كما يقدم الكاتب العام تصور واقتراحات النقابة في معالجة هذه الإشكاليات الكبرى، وكان هذا اللقاء فرصة سانحة للصباني للحديث عن مآل الحوار الاجتماعي بين النقابة من جهة والوزارة الوصيةعن القطاع من جهة أخرى.
في البداية أهنئكم على انتخابكم كاتبا عاما للنقابة الوطنية للتعليم العالي في المؤتمر الوطني الأخير، وأول سؤال يتبادر للذهن هو كيف مرت أشغال المؤتمر الحادي عشر للنقابة الوطنية للتعليم العالي؟
المؤتمر الحادي عشر سجل نجاحاً كبيرا، وكان فرصة لترسيخ وحدة الصف لنقابتنا، حتى تستمر في تحمل المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها منذ تأسيسها، والمتمثلة في النضال من أجل إصلاح منظومة التعليم العالي من جهة وتحسين الوضعية الاعتبارية للأساتذة الباحثين من جهة أخرى. كما تمثل هذا النجاح في عدد البطائق التي تم بيعها والتي فاقت 8000 بطاقة، وهو رقم قياسي، إذ عرف المؤتمر مشاركة 442 مؤتمرا ومؤتمرة مثلوا 136 مؤسسة و23 مدينة جامعية.
من جهة أخرى لابد من الوقوف على المناخ العام الذي أدى إلى توافق شبه كلي مكننا من ضمان تمثيلية في اللجنة الإدارية متوافق عليها من جميع المشارب الفكرية التي تضمها نقابتنا، لكن مع الأسف الشديد، لم نتمكن من الوصول إلى نتيجة مرضية للجميع في تشكيل المكتب الوطني، وخاصة مع غياب الفعاليات النسائية المناضلة، وكما جاء في البلاغ الصادر عن أول اجتماع للمكتب الوطني بعد تشكيله، فقد اعتبرنا أن هذا الغياب خلل يتعين تداركه في أول محطة تنظيمية، وهو ما تم بالفعل في أول اجتماع للجنة الإدارية يوم 15 يوليوز 2018 حيث تمت المصادقة على انتخاب أستاذتين لعضوية المكتب الوطني.
كيف ترون الدخول الجامعي للموسم الحالي 2018 – 2019 من زاويتكم كنقابة وطنية للتعليم العالي؟
يكمن الفرق بين البنية التحتية والموارد البشرية وبين التزايد المنتظم للطلبة (ازداد عدد حاملي الباكلوريا الجدد لموسم 2018 ب 000 60 طالب، أكثر من السنة الماضية)، وهذه صعوبة تعودنا على مواجهتها كل سنة خلال كل دخول جامعي.
وهل هنالك نقص في البنية التحتية وفي الموارد البشرية؟
بطبيعة الحال هناك نقص، لكن هنالك أيضا تفاوت بين المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود والمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح. هذه الازدواجية خلقت خللا بين العرض والطلب، وذلك راجع لعدم مواكبة إحداث المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود لاستيعاب تطور عدد الطلبة، فرغم بناء بعض المدرجات أو القاعات أو الزيادة في عدد المقاعد البيداغوجية ببعض المؤسسات إلا أنها تبقى حلولا محدودة الأثر، فوحده تخطيط أكثر استراتيجية يمكننا من حل جذري للمشاكل الدورية لكل دخول جامعي.
كيف ترون واقع حال التعليم العالي بالبلاد؟
يتفق الجميع على أن البلدان التي تتوفر على نظام فعال للتعليم العالي هي أكثر البلدان تقدما وديمقراطية وحداثة وعدالة اجتماعية، كما يتفق الجميع كذلك على أن البلدان التي يعتبر نظام التعليم العالي فيها أقل فعالية، هي أقل تقدما وأقل ديمقراطية وأقل حداثة وأقل عدالة اجتماعية، وبالتالي لا يمكن اعتبار التعليم العالي مجرد قمة لهرم المنظومة التعليمية، بل هو الدعامة الأساسية التي تساهم في تقدم البلاد وفي دمقرطة المؤسسات وفي بناء مجتمع حداثي تسود فيه العدالة الاجتماعية، فالتعليم العالي هو الذي ينتج المعرفة الجديدة اللازمة لتكوين الكفاءات الضرورية التي تحتاج إليها البلاد كالأطباء والمهندسين والموظفين والمقاولين… إن القدرات الفكرية التي ينميها التكوين الجامعي المرتبط بالبحث العلمي لهذه الأطر سيسمح لها بتطوير القدرات والكفاءات التي تمكنها من اتخاذ القرارات المناسبة التي تنعكس على المجتمع برمته. وعلى الرغم من هذا الدور الأساسي الذي يلعبه التعليم العالي لم تجد بلادنا الحلول المناسبة للمشاكل التي يتخبط فيها.
ما هي الإشكالات الكبرى التي تعوق التطور والتقدم بالقطاع؟
الإشكالية الكبرى في منظومة التعليم العالي تكمن في عدم احتكار الجامعة لمهامها الطبيعية والمتمثلة في تكوين النخب وإنتاج المعرفة. من وجهة النظر النقابية ‘’الخطيئة الأصلية’’ والقاتلة تتمثل في ‘’البلقنة’’ التي عرفها التعليم العالي منذ منتصف الستينيات والتي أدت إلى الفصل بين مؤسسات تابعة للجامعة ومؤسسات غير تابعة لها، مؤسسات ذات استقطاب محدود تلقن معرفة مهنية صرفة حرمت من البحث العلمي، ومؤسسات ذات استقطاب مفتوح تلقن معرفة أكاديمية صرفة بإمكانات دون الحد الأدنى الضروري لبحث علمي جدي. بعد هذا التقسيم في الفضاء التعليمي إلى جزء داخل الجامعة وجزء خارجها، جاء في الثمانينيات تقسيم الزمن التعليمي إلى تعليم باللغة العربية قبل الباكلوريا وتعليم باللغة الفرنسية بعد الباكلوريا، ثم ظهر تقسيم جديد، منذ منتصف التسعينيات، بين مؤسسات مؤدى عنها وأخرى غير مؤدى عنها.
إن وضعية الشتات التي يعرفها التعليم العالي (حيث يتكون من تعليم عال عمومي موزع بين 18 وزارة، تنضاف إليه مؤسسات محدثة في إطار الشراكة …) تعتبر أهم عائق في وجه أي إصلاح حقيقي.
كما أن هناك إشكاليات أخرى أتت نتيجة الإصلاحات المتتالية والتي لم تنجح في معالجة ‘’الداء’’ واقتصرت على معالجة ‘’الأعراض’’. وهنا يمكن الحديث عن الهندسة البيداغوجية، عن البحث العلمي وعن حكامة المنظومة …
ما هو تصوركم واقتراحاتكم حول هذه الإشكالات، التي يمكن أن ترفعوها إلى المسؤولين عن القطاع من أجل تجويد التعليم العالي بالبلاد ولكي تستعيد الجامعة المغربية بريقها ووزنها في التأطير العلمي والأكاديمي والفكري للمجتمع بالمستوى المطلوب، والذي نطمح إليه جميعا؟
تصورنا، الذي عبرنا عنه في عدة مناسبات، وخاصة في مؤتمرات نقابتنا منذ السبعينيات، ينطلق من الإيمان العميق بالدور المركزي للتعليم العالي في تقدم البلاد، وفي بناء مؤسسات ديمقراطية ومجتمع حداثي تسود فيه العدالةُ الاجتماعية، ينبني على عدة مرتكزات:
المرتكز الأول في هذا التصور هو شمولية الإصلاح، ففي نظرنا أي تجزيء لا يمكن إلا أن يتوج بالفشل. كما نعتبر أن المدخل الوحيد للإصلاح هو توحيد التعليم العالي في إطار ‘‘جامعة موحدة المعايير ومتعددة الاختصاصات’’. هذا التوحيد هو في حقيقة الأمر لم يعد مجرد مطلب نقابي، بل أصبح منذ 1999 توصية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين (مادة 78) ثم بند من القانون 01.00 (مادة 100) لسنة 2000، يبقى إذن مطلبنا النقابي هو تطبيق القانون!
المرتكز الثاني هو الطابع العمومي، إننا في النقابة الوطنية للتعليم العالي نعتبر أن تقدم أي بلد يرتكز على قدرته على إنتاج المعرفة، وبما أن إنتاج المعرفة الجديدة مرتكز على انتشار المعرفة وتعميمها فإن التملك الخاص للمعرفة سيضع عرقلة لشروط إنتاجها، وبالتالي فإننا نعتبر أن إبقاء المعرفة في المجال العام شرط أساسي لتقدم البلاد.
المرتكز الثالث هو استقلالية الجامعة التي ستتمكن من خلالها هذه الأخيرة، أثناء إنجازها لمهامها، من اختيار توجهاتها الخاصة، وأن تعود لها السلطة في بلورة طريقة اشتغالها، كما تقتضي الاستقلالية أن تكون الجامعة مجالاً تشاركياً يساهم فيه الأساتذةُ مباشرة في هيئاتها التقريرية، ومجالا للحرية، يتحمل فيه الأساتذة مسؤولية المحافظة على مسافة نقدية بالنسبة للمجتمع وللسلطات المختلفة.
المرتكز الرابع هو الربط الجدلي بين التعليم والبحث العلمي، فهذا الربط هو الذي يضمن نقل معرفة نقدية تنطلق من أسس متينة كاكتساب المعارف، وممارسة الإبداع، والجرأة في مساءلة اليقينيات، والصرامة في تطوير الفكر النقدي والكفاءة في اكتساب الفكر العلمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعليم العالي لا يتكون ولا يمكن أن يتكون من مدرسين ومن باحثين، ولكن من أساتذة-باحثين، أشخاص تتمثل مهمتهم، في نهاية الأمر بشكل غير قابل للفصل، في التدريس والبحث. فالفصل بين هذين الشقين يضر بمفهوم أستاذ التعليم العالي ومن خلاله بالتعليم العالي نفسه.
المرتكز الخامس هو ولوج الجامعة، الذي يعتبر لكل المواطنين، وفق الآليات والضوابط البيداغوجية والعلمية الضامنة للجودة، شرطا ضروريا لتحقيق العدالة الاجتماعية، واعتبارا لكون إمكانية ولوج التعليم العالي مسؤولية مشتركة، حيث تناط بالجامعة مسؤولية عرض وتطوير وملاءمة مسالك تكوين تستجيب لحاجيات الأفراد والمجتمع، وتقتضي هذه المسؤولية أن تتوفر للجامعة الوسائل والموارد الكافية، بشرية ومادية، لضمان القدر الكافي من تنوع المسالك، كما يجب أن تلتزم الدولة بالدعم المناسب للطلبة وتوفير شروط النجاح في تعليمهم وتذليل كل الصعوبات الاجتماعية وإدماج جملة من الوسائل المكملة بشكل يسمح لكل من تتوفر لديه القدرة والرغبة في مواصلة التعليم أن ينجح في ذلك.
المرتكز السادس هو حكامة المنظومة، إن سوء التسيير والتدبير الإداري أو المالي في بعض مؤسسات التعليم العالي، وعجز بعض المسؤولين محليا أوجهويا عن التسيير والتدبير، وتطاول عدد من المسؤولين على اختصاصات المجالس المنتخبة وعدم احترام قراراتها، وتجاوز وعدم احترام المقتضيات القانونية الجاري بها العمل يتطلب تعزيز الديمقراطية على مستوى هياكل مؤسسات التعليم العالي والجامعات ومراجعة الطريقة الحالية لاختيار رؤساء الجامعات وعمداء ومدراء مؤسسات التعليم العالي في أفق انتخابهم. إن طرح منطق الإصلاح بمفهومه الجديد يكمن في بناء منظور متقدم للحكامة الجامعية يتجاوز التدبير اليومي الظرفي نحو التدبير المهيكل المبني على استراتيجية مشروع مجتمعي. إننا نَعتبِر أن الجامعة هي قبل كل شيء خدمة عمومية تهدف من خلال تضافر التعليم والتأطير مع البحث العلمي إلى تطوير المعرفة النقدية. وبسبب تزايد عدد المؤسسات، والتعقيد المتنامي لتسييرها، يجب تزويدها بآليات صارمة وفعالة، دون اللجوء إلى إجراءات بيروقراطية بعيدة عن المنطق الجامعي. وفي هذا الإطار، نعتبِر أن الدور الرئيسي في تقديم وإدارة مشاريع التكوين والبحث يجب أن يسند للأساتذة، باعتبارهم الفاعلين المركزيين في إنتاج وتلقين المعرفة، إن مكانة الجامعة وقيمها تستوجب أن تكون الممارسات الإدارية داخل الجامعة في خدمة التدريس والبحث العلمي وليس العكس.
نغتنم المناسبة لنسألكم حول مآل الحوار الاجتماعي بين النقابة الوطنية للتعليم العالي من جهة والوزارة الوصية عن القطاع؟
بعد تعيين سعيد أمزازي على رأس وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي جرى لقاء مع النقابة الوطنية للتعليم العالي، يوم الأربعاء 28 مارس 2018 ،توج ببلاغ مشترك. كان ذلك شهر قبل المؤتمر الوطني الحادي عشر. وبعد انتخاب المكتب الوطني الجديد كان لنا لقاء مع الوزير بمعية كاتب الدولة في التعليم العالي والبحث العلمي والكاتب العام للقطاع ومدير ديوان الوزير يوم الخميس 26 يوليوز 2018، سجلنا فيه،بارتياح، الجو الذي مر فيه الاجتماع من نقاش عميق وصريح تخللته مرافعات لأعضاء المكتب الوطني في عدة مواضيع كما سجلنا التقدم الحاصل في العمل التشاركي مع الوزارة الوصية.
ما هي النقط الأساسية في الملف المطلبي للأساتذة الباحثين والنقابة الوطنية للتعليم العالي؟
بطبيعة الحال هناك الأوراش الكبرى مثل الإصلاح الشمولي للمنظومة، مراجعة القانون 00-01، الإصلاح البيداغوجي، نظام أساسي جديد للأساتذة الباحثين…
وفي ما يخص باقي المطالب يمكننا أن نقسم هذه المطالب إلى نوعين، نقط تهم المسار الإداري للأساتذة الباحثين ونقط متعلقة بالمؤسسات التابعة أوغير التابعة للجامعة. كما يمكننا أن نقسم هذه المطالب إلى نوعين، هناك نقط حصل فيها اتفاق مع الوزارة الوصية وبالتالي ننتظر أجرأتها، وهناك نقط أخرى تتطلب تعميق الحوار.
فبالنسبة لما تم الاتفاق بشأنه بالنسبة للمسار الإداري للأساتذة الباحثين هناك نقطتين،الأولى تتعلق بالتفاوت الحاصل في الأقدمية بين مختلف فئات الأساتذة الباحثين، وهنا حصل تقدم في قضية رفع الاستثناء على حاملي الدكتوراه الفرنسية والثانية تتعلق بالانحباس الذي يعرفه تطور المسار الإداري الحاصل في جميع الإطارات، وقد سجل تقدم في قضية أساتذة التعليم العالي والأساتذة المؤهلين، حيث أن الوزارة تعتزم إضافة درجة «د» في إطار أستاذ مؤهل وفي إطار أستاذ التعليم العالي وكذا الدرجة الاستثنائية في إطار أستاذ التعليم العالي.
أما بالنسبة للنقط الأخرى فهي لا تزال تتطلب تعميق الحوار ويتعلق الأمر ب (الزيادة في الأجور، احتساب سنوات الخدمة المدنية، سنوات اعتبارية لحملة دكتوراه الدولة، …) وفي مقدمة هذه النقط بطبيعة الحال سن نظام أساسي جديد يراعي المهام الجديدة المنوطة بالأستاذ الباحث.
هناك أيضا مطالب خاصة مثل إصدار النصوص المتفق حولها للحل النهائي لإشكالية الوقت الكامل المهيأ «TPA» بالنسبة للأساتذة الباحثين الأطباء، وهناك أيضا مطلب استرجاع حق أساتذة القانون في ممارسة مهنة المحاماة.
بالنسبة للنقط المتعلقة بالمؤسسات التابعة أو غير التابعة للجامعة والتي حصل فيها اتفاق هناك نقطة إلحاق المعاهد العليا لمهن التمريض وتقنيات الصحة.
أما بخصوص النقط الأخرى التي ما زالت تتطلب تعميق الحوار فنذكر منها إلحاق المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بالجامعات، إلحاق مركز تكوين مفتشي التعليم ومركز التخطيط والتوجيه التربوي بالجامعة، وتفعيل المرسومين المنظمين لأكاديمية محمد السادس للطيران بالنواصر.
الكاتب : عبد الحق الريحاني
تعليقات الزوار ( 0 )