بنسالم حِـمِّيش

عطفا على مقالتي السابقة “والتدهور الثقافي أيضا”، هي ذي أخرى تكشف عن وجه مخصوص من التدهور ذاته في قطاع السينما.

عرفت هرطقة عيوش الأب حول الدارجة (دارجته) فشلا ذريعا، لما أن شطبها المجلس الأعلى من مداولاته وتقريره؛ وكان لمن وقفوا ضدها، وصاحب هذه السطور منهم، دور أكيد في ما آلت إليه. لكن ما إن تخلصنا منها حتى أحدث عيوش الإبن هرطقة أخرى في فيلمه الأخير، تعنّيت مشاهدته على اليوتوب من باب ولعي بالسينما وممارستي كتابة السيناريو، فرأيت أن هذا الوليد الجديد، علاوة على أحادية البعد والمعالجة فيه، وإساءته إلى بلد عربي مذكور بالاسم، وتقويل “السعودي” لشتم في الفلسطينيين، وإظهار شابات في أوضاع حيوانية مهينة: واحدة تحبو وخلفها رجل كأنه يقودها بسوطه؛ قزم يطبطب على مؤخرة شابة ثانية، إلخ، علاوة على كل هذا وسواه فإن ذاك الوليد بالغٌ درجة الصفر في الإبداع تصورا ولغةً وذائقة فنية وحتى معرفةً بالموضوع نفسه. أما قرار منع الفيلم من العرض، فهذا ما سيسخره صاحبه كورقة لتسويقه في أوروبا والتبرج بمظهر ضحية الرقابة والقمع. لكن هذه الحيلة، بعد أن نفعته في ماضي الأيام، فإنها الآن باخت ولن تنطلي مجددا على الأوساط السينمائية الأجنبية الجادة، هذا ولو عاد الوالد إلى تحريك آلته الإشهارية المتنفذة وشبكة علائقه الواسعة.

أما داخل المغرب، فحتى لو لم يصدر قرار المنع ذاك، فإني لا أرى موزعا أو ربّ قاعة يقبل بترويج ذلك المسخ، بل إن ممثلين لأهل الفن السابع استبشعوه، منهم مثلا الفنانة الموهوبة السيدة سهام أسيف التي اعترفت بالمناسبة أنها كانت دائما ترفض عروض لعب أدوار العري والخلاعة، وتأكدت من حسها الأخلاقي حين أدت بمهنية عالية دورا في فيلم تلفزي كنت وضعت له السيناريو.

عودا إلى الموضوع كما عنونته أقول:

تشكو السينما المغربية من شروخٍ ومعاطبَ شتى يقيسها العارفون برسوخها وتواترها. ولن أتحدث هنا عن ضعف الإقبال عليها أو تناقص قاعات العروض على امتداد البلاد، ولا عن غرابة إلحاق قطاع الفن السابع بوزارة الإتصال (وهذا من عقابيل سنوات الرصاص)، ولا عن ضحالة تكوين أغلب مخرجينا وضيق أفقهم الثقافي حتى سينمائيا، لا ولا عن تملك كل واحد منهم لشركته الإنتاجية واستفراده بكتابة السيناريو والحوار، وحتى عند البعض بلعب دور في أفلامهم، وغير ذلك؛ لا، بل إنها مسألة حدث لي أن رصدتها رصدا أيام شغلت رئاسة صندوق دعم الإنتاج السينمائي المغربي مدةَ عامين (2007-2008)، تتعلق بغلبة ما قد أسميه الثالوث الموضوعاتي المدنّس من طرف من سأذكرهم، وهو الجنس بكل فروعه، المخدرات والتطرف الديني، وما يحوم حوله من تنويعات، كالهجرة السرية والحب الخائب وشوية سياسة ، وأيضا من مقبِّلات وتوابلَ تتضافر كلها وتتناسل لتصوير المغرب كما لو أنه من أكبر العواصم العالمية لتلكم الظواهر والإنحرافات. وتبيّن لي إذذاك سُخف تسويغاتٍ وتبريراتٍ وبوارها، من صنف: “الجمهور عايز كذا” أو “احنا ماشيين مع الأذواق”؛ إلا أن عزوف الجمهور وحتى موزعينا وأرباب القاعات عموما عن أفلام مخرجينا إجمالا ينقض ذلك تماما ويبطله ليترك المجال واسعا للتفسير الأوحدِ الدامغ، وهو ذو شيقين: إما طمع أولئك المخرجين في الترويج لنتاجهم خارج المغرب بترغيب موزعين أجانب وتملقهم؛ وإما تلهفهم على جني إسهامات تمويلية (وهذا هو الأغلب) من منتجين فرنسيين وفرنكوفونيين موعودة قبل الإخراج أو خلاله. وما كنت لأقف عند هذا الرصد لولا شهادات بعض مخرجينا النزهاء -وهم قلة-، ومنهم السيدة المقتدرة فريدة بليزيد، باحوا لي باتصالات جرت معهم مرات من طرف أولئك المنتجين، تعبر عن استعدادهم للمساهمة جزئيا أو كليا في تمويل أعمال سينمائية، شريطة أن يسايروا ذلك الثالوث، الذي هو عندهم مقدس ويطاوعوه. وبالطبع كانوا يرفضون بحجة نبيلة هي أنهم لا يمارسون فنهم السينمائي تحت الطلبيات والتعليمات. وما عدا هؤلاء النزهاء (ومنهم أيضا الماهد سهيل بن بركة الذي اعتزل السينما وجيلالي فرحاتي وحكيم بلعباس) يظل الآخرون يتسابقون إلى دخول بيت الطاعة، ضاربين أرقاما قياسية في الممالأة والزلفى لجلب ما استطاعوه من الجهات الأجنبية ومن أخرى مشبوهة، مع الإبقاء على طلب الدعم من الصندوق المغربي من دون عفة وخجل. حاولتُ وقتذاك أن أحجِّم الظاهرة وأقلل من أضرارها، كما تعبت -كم تعبت!- في جعل اللغة العربية وعاميتها لغة كتابة السيناريات ومداولات لجنة الدعم. وقد أكون توفقت قدر الإمكان، لكن من دون أي ضمانة في استمرارية الموقف المصحِّح لدى من أتوا بعدي. وقرين تلك الظاهرة تأكد لي خلال مخالطتي للوسط السينمائي أيام اشتغالي بكتابة سيناريات لثلاثة أفلام تليفزيونية للقناة الثانية مع المخرج إسماعيل (حصل منها “علال القلدة” على الجائزة الأولى في مهرجان بالقاهرة سنة 2004)، وكذلك أثناء متابعتي لمراحل في التصوير وحضوري بعض المهرجانات وعضويتي في لجن تحكيم.

بالمثال قد يتضح المقال: لعل أمهر أولئك المخرجين المهرولين إلى ما ذكرت هو الغني عن التعريف، نبيل عيوش، إذ صار أكثر فأكثر قدوة لمجايليه في المهنة وسواهم (كليلى المراكشي، لقطع، لخماري)، حتى قبل أن يقدم على تكييف وأفلمة رواية عنوانها “نجوم سيدي مومن” لماحي بنبين، وهو الحي الصفيحي الفقير بالدار البيضاء الذي أنجب شبابا منحرفين، انخرطوا في عمليات إرهابية شنيعة، هزت فندقا وأمكنة بالدار البيضاء في 2003، وخلفت العديد من القتلى والجرحى؛ لكنَّ المخرج هذا استبدل ذلك العنوان الأصلي بآخر يُرضي رعاته الأجانب، وهو “يا خيل الله”، مصورا أولئك الشباب الجانحين أحصنةً يمتطي الإله صهواتها، ويحرضهم على أعمالهم الإرهابية، جهادا في سبيله وتقربا إليه… أيّ أميّة أوغل من هذا وأبشع! ويستمر مخرجنا على نهجه وديدنه، إذ آخر ما أضافه إلى بالماريس أعماله، كما قدمنا، يرجعنا إلى أحد فروع الجنس الماثل هذه المرة في الدعارة من خلال عرض جوانب من حياة مومسات مغربيات، وبأسلوب فج ولغة ساقطة. وقد أعطاه، كما هي عادة مخرجين آخرين في التحذلق المصطلحي اسما بالأنجليزيةMuch loved (وبالدارجة “الزين اللي فيك”). ولا ريب أن المخرج سيلقي وراء ظهره بتلكم الشابات الشقيات اللواتي يحترفن البغاء وليس التمثيل، ما عدا واحدة فاشلة، لا حماية لهن من السيدا ولا تغطية صحية ولا حياة عائلية؛ ولا شيء من هذه المآسي يهم المخرج الذي يكتفي بتعويضهن عن أدوارهن المهنية بشوية فلوس، كما فعل مع أطفال فيلمه الأسبق “علي زاوا”، الذي عاد “بطله” المسكين إلى انحرافه وتشرده. ومعنى هذا أن موضوعات ذلك الثالوث ومشتقاته، إنما يدمن عليها محترفوها سينمائيا بقصد مبيت، هو النزوع الجامح إلى استغلالها والتربح بها كحكرة تجارية قائمة أساسا على إثارة الحواس والنزوات البهيمية من العري والكلام الحضيضي، مثلها مثل الأشرطة البورنوغرافية المتخصصة، مع فارق مهم هو أن هاته لا تُحدد غالبا بالتسمية والتعيين بلدان تصويرها، خلافا لما دأب عليه أصحاب تلك، أي إعلان اسم المغرب من خلال إحدى حواضره الكبرى (مراكش، الدار البيضاء، طنجة…). وقد تفوق في هذا وبرز صاحب الفيلم المذكور بجولاته وصولاته الحادةِ المتواترة.
إن انتفاضة مواقع وشبكات اجتماعية ضد “الزين اللي فيك”، وتنسحب أيضا على فيلمين سابقين “لحظة ظلام” و”ما تريده لولا”، محقة في ما ذهبت إليه حين وصفته بالرداءة والنتانة شكلا ومضمونا. أما المقاطع الباعثة على التقزز بل القيء التي عرضتها، فلا ينفع في تبرير صاحبها بكونها إنما سُربت أو اجتزئت، بل هي ما عزز به طلب اعتماد الفيلم من طرف لجنة كان على هامش المهرجان، أي خارج المنافسة، وهذا في حد ذاته حدث غير ذي بال؛ وأما تسويغ الفيلم من حيث إنه يصور الواقع (هذ الشي كاين، حسب تعبير أزلامه)، فإن قبوله قد يهيئ بالتماثل -وهذا هو سؤال الأسئلة- تصوير مشاهد في ممارسة الجنس المثلي والجنس الجماعي والبيدوفيليا أو لـِمَ لا نكاح المحارم، وذلك بدعوى أنها واقع، ثم السعي إلى عرضها على الناس في القاعات المظلمة. وبهذا يكون المخرجون من هذا الصنف والطينة يخلطون خلطا شنيعا ما بين حرية التعبير وحرية العبث والتخريب، ولا يقيمون في منظومتهم الذهنية المختلة أيَّ وزن واعتبار لما نجمع على تسميته بحس المسؤولية وقيم المجتمع وأساسياته، التي إذا ما مست بسوء بالغ، فلا غرو أن يثير هذا السوء ردود أفعال مشمئزة مستنكرة. وبهذا الصدد ينتظر من ناشطات الحركة النسائية أن يعبرن عن موقفهن من إهانة المرأة المغربية عن قصد وسبق إصرار، وذلك بتحويلها إلى بضاعة مبتذلة وبائعة لجسمها وكرامتها على نحو يدوس أبسط حقوقها…

 

إن السينمائيين عموما في بلادنا تعوزهم معرفة تاريخها وتكوينها الإجتماعي وثقافتها، كما أنهم يعادون لغتها من فرط ما يجهلونها. الفرنسية، ولو وسطى أو مهلهلة، هي قرة أعينهم، أميرتهم وآمرتهم، مع تصريف الحوار بعامية مغربية هجينة مهترئة. وتنتج عن ذلك أفلام سريعة الطبخ والعرض، سرعان ما تتلاشى ويطويها النسيان. هكذا حالهم، حتى إذا تمكن بعضهم من المشاركة في مهرجانات عالمية، ارتدت إليهم صور صغرهم وضآلتهم، ولكنهم لا يتدبرون ولا يعتبرون. وهكذا يظلون على مرِّ السنين من المدجَّنين المستلبين حتى النخاع، عبيدي الهيمنات الطاغية ومن مطبعي التبعيات الذيليةِ الإرادية العقيمة.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

أوجار بين الحكامة و السندان

الملك يريد عملية إحصائية للسكان بمناهج خلاقة

الحكومة المغربية تهرب التشريع المالي

المستقبل يبدأ من … الآن من أجل نَفَس ديموقراطي جديد