كأنّهُما تَـتَـناوَبانِ على الرُسُـوِ فوقَ جَـبـينهِ.
بِـلباسٍ مُقتصدٍ في التّكلف ،بعيد عن الأناقة الإدارية للنخب الرباطية – غالباً بقميص صيفي خفيف أو في الشتاء بكاشكول صوفي طويل – يتوسط منصة القاعة الكبرى بالمقر المركزي القديم للاتحاد بأگدال. الى جانبه يجلس محمد الساسي أو جمال أغماني أو عبدالعالي مستور. تنطلق اللجنة المركزية للشبيبة بحرارة الشعارات الصاخبة. يُعرض جدول أعمال الدورة و تعطى الكلمة لممثل قيادة الحزب .
يركن الى جانبه حقيبة جلدية مكتنزة. يضع أمامه مقلمة مليئة ،دفتراً من الحجم الكبير ، ليس أقل من أربعة أقلام مختلفة الألوان والأشكال ،حاملاً للأوراق البيضاء والملونة؛ يستل منه ورقة خط فوقها العناوين الرئيسية للمداخلة .
وبعد أن يلتقط إسم الدورة أو تزامنها مع ذكرى شهيد أو حدث ،ليربط دروس الماضي برهانات المُستقبل ،ينطلق بهدوء لافت في إستعراض عناصر الوضعية السياسية الوطنية: يقدم الوقائع ويعيد بناء الأحداث ،يستعرض مواقف الفاعلين و وجهة نظر الحزب ،يستعمل اللغة “العالمة”:مفاهيم السوسيولوجيا والعلوم الإجتماعية ،تم بيُسر بيداغوجي ينتقل الى سِجلٍ آخر فيُوظف داخل خطابه أمثالاً شعبية مُقنعةً ،أو عبارات “دارجَةٍ”من قلب التداول الشفاهي ،أو آياتٍ قرآنية يستحضرها سياق الحديث.
في كل هذا يحرص على إعطاء المعنى للسياسة ،وربط الممارسة بالقيم و الأخلاق ،ويبدو كإمتدادٍ ثقافي لمدرسة عبدالرحيم بوعبيد،وهو يدافع عن روح الحركة الوطنية، عن فكرة التقدم ،عن الحاجة للإصلاح ،عن حتمية التوافق ،أو وهو يبحث عن أفقٍ جديد للإشتراكية والعدالة .
نحن – الآن- في عقد التسعينات ،حيث انعطف التاريخ المغربي بسرعة خاطفة ،نحو محطات التعديلات الدستورية ،و بدايات المصالحة ،والبحث عن التناوب ،وحيث كثافة الأحداث تُدوِخُ الشباب ؛الذي لا تعينه عُدته المبدئية -لوحدها-عن فك الشفرات المعقدة للمرحلة:الكتلة،اليوسفي،اليازغي،الأموي،الفقيه،النشرة،المؤتمر…،ولا على الحفاظ على شمال البوصلة و”جنوب الروح”، فيحدث أن يلقي بهواجسه وقلقه-بغير قليل من الروية- مرة واحدة نحو المنصة.
يُنهي العرض المُركز،و يحتفظ بالحجج الأكثر إفحاماً الى مابعد. يعرف بالدُربة ما ينتظره : عشرات التدخلات المليئة بغضب الشباب القادم من كل جعرافيات المغرب المنسي ،والمسكونة بالأحلام الطرية لأبناء الفقراء .في الرٓد يغير من حدة الكلام : يظهر قدرته الإسثتنائية على تركيب النقاش و يدفع بالحوار الى مداه الأقصى، يدافع عن الخط السياسي محتفظاً – في نفس الآن -بنبرته النقدية اللاذعة.
يسترسل صاحبنا في الحديث الآسر ،بلكنته المميزة ، و بحركة يديه اللتان لا تكادان تتوقفان عن الحركة ، صعوداً وهبوطاً،كأنهما تتناوبان على الرسو فوق جبينه.
كثيراً ما تغضبه قسوة الإنتقادات ، وكثيراً ما يعلن أنه لن يقبل في المستقبل “ورطة” الدفاع عن الحزب أمام الشبيبة،لكنه في العمق يبدو سعيداً بهذا التمرين السياسي ،ومُمتناً للشباب بهذا الإشتباك الفكري الذي يغدي هوايته الأثيرة : صناعة الأسئلة والبحث عن أفق جديد للفكرة الإتحادية .
ينتهى اللقاء في ساعة متأخرة من الليل أو في بدايات صباح اليوم الموالي،قد لا ينجح القائد دائماً في إقناع مُخاطبيه بسداد القرارات الحزبية ،لكنه يفلح دوماً في إقناعهم بصدقيته و نُبْلهِ،لذلك يصدح -في الأخير-الجميع بنشيد الشهداء،و وسط الحماسة والقشعريرة التي تسري كـكهرباء سرية في القاعة،يعْلو مُحيا صاحبنا بابتسامة واسعة، فيما تُغالب مُقلتاه دمعتين عصيتين وراء نظارته الطبية التي تخفي حاجبين كثين.
المؤكد أن هذه ليست الصورة الوحيدة،التي يمكننا ان نسترجع بها فقيدنا الراحل السي محمد جسوس،بإمكان المثقفين أن يستعيدوه أيقونة للإلتزام والتضحية والشجاعة ،وبامكان الباحثين أن يستعيدوه رائداً للدرس السوسيولوجي المغربي،و بإمكان المناضلون أن يستعيدوه قائداً خلوقاً،متواضعاً، نزيهاً ،متعففاً،و زاهداً عن المناصب و المال ،حريصاً على ربط النضال بالمعرفة ، السياسة بالأخلاق،والفكر بالممارسة .
ندفن اليوم مثقفاً، ألمعياً، ملتزماً، تقدمياً من طراز رفيع . نفعل ذلك ونحن نقاوم تشاؤم فكرة ظاغطة:أن ندفن مع الرجل ما تبقى من ذكريات مجيدة عن الهيمنة الثقافية لليسار.
خسارتنا واحدة في الراحل ،والعزاء موصول لأسرته الصغيرة ،لرفاقه في النضال ،لزملائه في الجامعة ،ولأعزائه في الحياة : داخل حلقة أصدقاء الخميس ؛فبغيابه و قبل ذلك بغياب واصف منصور ،فان الموعد الأسبوعي الذي تجاوز الثلاتة عقود لن يكون- بعد اليوم -بنفس الطعم ،كما أن لعبة الورق لن تكون بنفس السلاسة و الحميمية .و من المؤكد كذلك أن موسيقى الألـة التي ترافقهم في الجلسات المنزلية الدافئة ستكون موشحاتها أكثر حزناً وشجناً.
وداعـاً أستاذنـا الكبير.
تعليقات الزوار ( 0 )