الحسين بوخرطة

عندما تم الإعلان عن النظام العالمي الجديد، النظام القديم بحلة جديدة أو بتغليف جديد (emballage)، بمؤسساته المؤطرة والموجهة، شاع مفهوم الحكامة في كل بقاع العالم. لقد عاشت الكرة الأرضية، مباشرة بعد هذا الإعلان، امتحان الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة على أساس برنامج تأهيلي لاقتصاديات العالم النامي أو السائر في طريق النمو، امتحان يلعب فيه الدولار الأمريكي المعيار النقدي لتحديد قيمة العملات النقدية للدول في العالم. وفي مسار هذا التوجه، وجدت الدول نفسها أمام سؤال يتكرر على مسامعها في إطار تقييم عملية الانخراط في العالم السياسي الجديد : “شكون أسيدي لمازال ما وقع على اتفاقية أ.م.س” (OMC)؟، اتفاقية حرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال مع تشديد شروط الالتحاق بعالم الشمال المزدهر (تقنين الهجرة). وساد الحديث في الإدارات الأجنبية المانحة للتأشيرات عن الحسابات البنكية لطالبيها وأصبح السؤال، الذي يبنى عليه قرار الرفض أو القبول :”واش عاندك أسيدي ما تخسر عندنا أولالا؟”، عاديا و”بلعلالي”، وساد الحديث في الأوساط الشعبية ببلادنا عن البحث عن “الضامن” و”شراء” عقود العمل في الخارج،…. ومن لم يجد من يأخذ بيده، كان يتوجه إلى السواحل لربما يجد منفذا، ويتحمل المخاطر المرتبطة به، لربما يوصله إلى الضفة الأخرى. ولنكن منصفين بالنسبة لبلادنا، هذه الظاهرة قلت جدا، بل أصبح المغرب، من خلال قانون الهجرة، بلد استقبال للمهاجرين وليس مصدرا لهم…. كما لا يمكن أن ننكر أن هناك بلدان إفريقية تحتضن الألوف من اللاجئين من الدول المجاورة وتتضامن معهم. إنها شيمة من شيم الأفارقة، أفارقة نكونو وروجي ميلا والظلمي والتيمومي وقادة التحرر السياسي (ذكرت الظلمي لأنه معروف بقلة الكلام و”يتكلم” في الملعب كاليوسفي الحكيم والممارس الميداني وقليل الكلام في السياسة)…… على أي، عودة إلى سياق النظام العالمي الجديد، كان الإعلان عنه مدويا سمعته كل الآذان الصاغية وغير الصاغية، ونظمت الندوات والمحاضرات والأيام الدراسية في شأنه بشكل مكثف في كل بقاع المعمور…. لقد شاع في كل الأوساط الاجتماعية كلمات أصبحت مترابطة ومتداولة في كل الخطابات الرسمية وغير الرسمية من قبيل الديمقراطية، والحرية بشقيها السياسي والاقتصادي، والحديث عن الحقوق السياسية، وتأجيل الحديث عن الحقوق الاقتصادية. ومع ذلك لم يكن هناك لشعوب الجنوب سوى خيار المسايرة، وسمعنا بعض الناس يقولون “آر وكان نجربو الجديد”، وآخرون رددوا أغنية “فين غادي بيا خويا فين غادي بيا….”. لقد برزت كلمة جميلة، قديمة وحديثة في نفس الوقت نظرا لاختلاف السياق ما بين الأمس واليوم، اسمها الحكامة وأضيف لها الجيدة أو الرشيدة. في الحقيقة مفهوم هذه العبارة، كما تداولته النخب شمالا وجنوبا، كان مثيرا وجذابا للغاية، لأنها كانت دائما تثار مرتبطة بعبارة “الحق في التفاوض على المصالح”. وقد سمعنا البعض يقول: الحمد لله، لقد اكتسبنا الحق في التفاوض السياسي جراء التطورات الخارجية. ولتقوية التفاعل مع العبارة، تجندت الآلة الإعلامية وروجت لقرار تعميم منطق جديد لتدبير الشأن العام والخاص على أساس حق الفاعلين في التفاوض على المصالح. لقد فرح كل من كان مفعولا به واعتقد أنه سيصبح فاعلا أو مفعولا لأجله. وكان التشبيك التكنولوجي “بوقا” مدويا في كل مكان إلى درجة لم تبق أي نقطة على وجه الأرض في منأى عن الأشعة التواصلية، أشعة خلقت عالما افتراضيا لا يرى، لكنه موجود على شكل كلام وصور وفيديوهات ويغطي كل مكان. إنه عالم آخر، شبيه بعالم الجن، لكنه جد مختلف لكونه يعكس حياتنا جميعا، ويمكن الإطلاع عليه في أي لحظة وبدون أن نعلم من طرف صناع القرار التكنولوجي. لقد تمكن النظام العالمي الجديد من إيصال كلماته إلى كل نقطة في المعمور، والتعرف على الثقافات والأفكار والمواقف، وفرض سياسته، إلى درجة أصبح حكام العرب بعيدين عن انشغالات شعوبهم خصوصا فئة الشباب، وسهل تركيب السيناريوهات للوصول إلى ما يسمى بالفوضى الخلاقة،…. فوضى تسربت من خلالها الامتحانات، وسهلت عملية اختراق الحياة الخاصة للمواطنين وانتشار الغش، وغيبت وأضعفت مؤسسات الدولة الوطنية في المشرق العربي، وسهلت التجسس والتسجيل بالصوت والصورة و….. (الهم كثير والسكات احسن فهمتوني أولالا)،…. المهم، الاستعمال غير السليم للتكنولوجيا زرع الشك والريبة بين الأصدقاء والأحباب ورفاق العمل….. فبعدما كان الناس يتحدثون بطلاقة وحميمية، ويعبرون بحرية عن آرائهم، أصبح الصمت، كسلوك تحفظي، سيد الموقف (في الحقيقة الشجاعة تقتضي أن يجهر المرء بدون خوف بكل ما يمكن أن يعبر عنه بالصمت). لقد تتبعنا، هنا وهناك، مصالحا تقضى ب”السكات” (من تحت الطاولة) وأخرى يتم التفاوض في شأنها مدعومة بحملة إعلامية قوية (“بروباكاندا”)، وأخرى تقضى بالوشاية والإشاعة وأشياء أخرى (“تما كاينة الخطة”)،…. لقد تتبعنا في البداية كل المتغيرات، ولم نطرح ولو سؤالا واحدا في إبانه جراء الحماس الديمقراطي الذي أصبنا به. لم نسأل حتى عن من له الحق في التفاوض؟، ولا عن المقصود بالمصالح؟. لقد غاب أو غيب عنا هذا السؤال ولم يكن لدينا أدنى فكرة في شأن تدقيق المفاهيم في سياقها خصوصا كل ما يتعلق بالتطبيق والتنفيذ وانتقاء المفاوضين…. تصوروا معي، لقد اعتقدت أنني ربما قد أتكمن من التأثير في المسلسل ولو بقدر ما تؤثر نقطة ماء في محيط، وقلت مع نفسي يجب أن ألقي بدلوي لعلي أجد منفذا لخزان خطط المنطق السائد، لعلي أتمكن ولو من ملامسة جزء صغير من خزان أفكار الفاعل الاستراتيجي…. على أي، جالست الكثير، وكتبت عن “الدروينية” الاقتصادية وحاضرت لثلاث مرات في موضوع “الحكامة الجيدة والسياسات العمومية”، وقلت ما يجب أن أقوله أمام المتتبعين. وتحدثت في نفس الموضوع مع عدد كبير من الأشخاص “الفاهمين”، لكن كانت ردود أفعالهم الإيمائية نظرات أعين كانت تحملق في تعبيرات محياي وكأني في دار “غفلون” (“أييه أسيدي فهموا غانتما”)…. حكايتي في الحقيقة مع “الفاهمين بزاف” طويلة (سأعود إليها لاحقا) … لكن لكي لا أنسى كسور الخاطر، أعود للموضوع….

وأنا أتابع تطور المكننة والإنسان الآلي “الروبو” (Rebot) بعد الإعلان التاريخي السالف الذكر، وهما يحتلان مكان الإنسان في المعمل…. وحتى في الحقول والضيعات الفلاحية… والنقابيين لا ينامون من أجل تعبئة العدد الكافي لإحياء عيد فاتح ماي، عيد العمال، الذي يكرهه “الروبو” ويمقته،… والأغنياء والمغتنين، ما قبل وما بعد التسعينات، وهم يحاولون غزو البرلمانات والمجالس التمثيلية والسيطرة عليها (هنا افتكرت الأغنية الشعبية المشهورة “آلغابة… آوريني وحشك يا الغابا… قالو الغابة فيها الوحوش”)…. والحزبيين والحقوقيين وهم يبادرون، بل ويصارعون سلميا “الرياح العاتية” للحفاظ على ارتباط الديمقراطية بالأحزاب السياسية عبر توعية الفقراء بعدما غلقت أبواب المعامل الأوتوماتيكية في وجوههم (النضال من أجل الارتباط بالفكرة ماشي بالدرهم أو العملة الصعبة)،… وشعوب الشرق الأوسط تعيش ما تمت تسميته بالفوضى الخلاقة وغياب و/أو تغييب الدولة الوطنية الحامية للشعوب العربية الشقيقة…. والتراب الفلسطيني يتآكل يوما بعد يوم….. وأنا أتابع كل هذا، بل وأشياء أخرى عديدة، ينكسر خاطري كل يوم أكثر من مرة، انكسارات لا أفهمها، ولربما ستتحول “واقيلا” إلى مرض مزمن دواءه لن يكون إلا التبشير بفكرة جديدة من خلال عمود كسر الخاطر تنسينا اكتظاظ قاعة الانتظار بالراغبين الانضمام إلى نادي “التزحلق المصلحي”،….. وأنا أقرأ عمود عبد الحميد جماهري في شأن ظاهرة “التزحلق المصلحي”، تذكرت أغنية مسلسل مغربي قديم لفرقة البدوي تقول: “افين لحباب أووا لكانو، أفين لصحاب أووا لكانو، واخا لفراق صبري أليام”. دواء الانكسارات، إخواني أخواتي، مرتبط بمدى ملامستنا في الأيام القادمة، التي نعتبرها جزء هام من تاريخ المغرب المستقل، وجود مبادرات لتقوية نوع من التفاعل السياسي الإيجابي والجاد بين الأصدقاء والأحباب ورفاق الدرب، تفاعل يجب أن يتوج باتفاق تاريخي يؤسس لفضاء زمني جديد، يركز في كل تجلياته على تقوية العلاقة ما بين المواطنين والسياسة. الانكسارات يمكن أن ترمم لكن المبالغة في التطبيع مع “التزحلق المصلحي”، والتركيز المفرط على الظاهرة لكي تخرج من وضعية الاستثناء، أعتبرهما من وجهة نظري خطرا على مستقبل المغرب السياسي. فمن قيل له “هاك هاك”، وهو صديق أو رفيق….، يجب أن ندعو له “الله انجيك من لهلاك”.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

أوجار بين الحكامة و السندان

الملك يريد عملية إحصائية للسكان بمناهج خلاقة

الحكومة المغربية تهرب التشريع المالي

المستقبل يبدأ من … الآن من أجل نَفَس ديموقراطي جديد