الأخوات والإخوة،
في البداية أود التأكيد على أن اجتماعنا اليوم ينعقد في سياق خاص يطبع المشهد السياسي، سواء على الصعيد الدولي أو على الصعيد الوطني، حيث توالت الأحداث والتطورات على العديد من المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل أهم حدث طبع المرحلة الحالية التحركات الملكية الأخيرة في العديد من البلدان الإفريقية من أجل مواصلة وتقوية الانفتاح على الشركاء الإفريقيين وإقامة نموذج جديد للتعاون السياسي والاقتصادي المتعدد المستويات.
وقد مكنت المبادرات الملكية، في هذا الصدد، من إعطاء دفعة قوية للعلاقات المغربية الإفريقية وتطويرها بشكل إيجابي ومثمر سيكون له أثر بالغ في دعم قضية وحدتنا الترابية. وتجسد ذلك في الخطاب الملكي الأخير، الذي وجهه جلالة الملك من العاصمة السنغالية دكار بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء، والذي اكتسى دلالات قوية تعبر عن البعد الاستراتيجي للسياسة الخارجية المغربية اتجاه إفريقيا.
من جهة أخرى، يعيش المجتمع المغربي اليوم على وقع مجموعة من الأحداث التي تشهدها الساحة الاجتماعية سواء على مستوى التعبيرات الاحتجاجية والمطالب المهنية والقطاعية المختلفة، أو على مستوى تدهور القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين ومعاناتهم جراء ارتفاع الأسعار.
كما أن الأجواء التي يعرفها المشهد السياسي، في ضوء مشاورات هيكلة مجلس النواب، وتشكيل الأغلبية الحكومية، تتسم بعدم الوضوح وانعدام التدبير السياسي الواعي بدقة المرحلة وإكراهاتها والرهانات المطروحة في اللحظة الراهنة.
غير أنه قبل الدخول إلى مناقشة التفاصيل التي ميزت الأجواء السياسية الحالية، لا بد من الوقوف مليا عند الاستحقاقات الانتخابية التشريعية الأخيرة لاستحضار ملابساتها وتأمل معطياتها وتداعياتها واستخلاص الدروس اللازمة منها.
الأخوات والإخوة،
تجدر الإشارة إلى أن التحضير للانتخابات التشريعية الأخيرة تميز، على المستوى الحزبي، ببلورة تصور سياسي واضح واعتماد منهجية جديدة قائمة على التخطيط المبكر والمبادرة الفاعلة وتعبئة جميع الطاقات الحزبية.
فقد كنا الحزب الأول والرئيسي، الذي عبر عن موقف واضح ونقدي من انتخابات 4 شتنبر 2011، ولقد أنصفتنا التطورات.
كما كنا الحزب الأول والرئيسي الذي بدأ مبكرا الاستعداد للانتخابات التشريعية مع مطلع سنة 2016 بإعداد مذكرة للإصلاح الانتخابي وتوجيهها لرئاسة الحكومة والأمناء العامين للأحزاب السياسية قصد المراجعة الشاملة للمنظومة الانتخابية.
وقد انطلقت مذكرتنا من حقائق ومعطيات موضوعية، معتبرة أن إصلاح المنظومة الانتخابية مدخل أساسي من المداخل المؤدية إلى الإصلاح السياسي الشامل. وتمحورت المذكرة حول ضرورة ضمان تمثيلية حقيقية للأحزاب السياسة، ونزاهة الانتخابات، وإعادة النظر في تقطيع الدوائر وحجم اللوائح وعدد مكاتب التصويت وكيفية الإشراف عليها ومراقبتها، والابتعاد عن الجمعة كيوم للتصويت، الذي يستغل دينيا، في الانتخابات، وضرورة سن قانون لإجبارية التصويت وغيرها من المقترحات الهامة. لكن للأسف الشديد، كما تعلمون ويعلم الرأي العام الوطني، لم تتم الاستجابة لمبادرتنا الإصلاحية ولم تتبلور الإرادة السياسية للتفاعل الإيجابي معها. وجاءت جل التطورات التي حصلت بعد ذلك لتبين صحة وجهة نظرنا ولتوقع على ممارسات انتخابية سلبية رغم أننا راهنا على وعي المواطنات والمواطنين، للتسجيل الطوعي والمكثف، في اللوائح الانتخابية، والمشاركة في التصويت لاختيار البديل ومواصلة ورش البناء الديمقراطي الذي أصابته أعطاب كبيرة.
وقد شكلت الاستحقاقات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016، بالنسبة للرأي العام الوطني وبالنسبة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، محطة فارقة في التاريخ السياسي المغربي نظرا لطبيعة النتائج التي تمخضت عنها. وأدت جسامة الحدث إلى خلق قناعة واضحة، لدى كافة المناضلات الاتحاديات والمناضلين الاتحاديين، بأن المرحلة الحالية حاسمة سياسيا ومجتمعيا بالنسبة لبلادنا ولمستقبلها السياسي والديمقراطي، ومصيرية فكريا وتنظيميا بالنسبة لحزبنا بحكم أدواره النضالية التاريخية والرائدة للدفاع عن بناء الصرح الديمقراطي السليم والقوي.
إنها وضعية سياسية تسائلنا اليوم كفاعلين حزبيين في تفاعلنا مع المشهد السياسي الوطني، وتسائل الجميع عن الإرادة السياسية الجماعية لترسيخ القواعد الديمقراطية ضمن منطق سياسي قائم على الشفافية والنزاهة. ولذلك، يتطلب الأمر، بشكل موضوعي وبعيدا عن المزايدات التي لا طائل منها، القيام بمقاربة شمولية للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، وتأمل وتحليل العوامل والأسباب التي أدت إلى ما آل إليه المسلسل الديمقراطي ببلادنا، وكذا الحياة الحزبية وأثر ذلك على العملية السياسية برمتها.
الأخوات والإخوة،
اسمحوا لي، قبل الإقدام على تقييم الانتخابات التشريعية الأخيرة، أن أذكر بالمراحل الأساسية التي قطعتها الاستعدادات الحزبية لخوض الاستحقاقات الأخيرة والمجهود الذي بدلناه جماعة على مستوى تدبير الترشيحات والبرنامج الانتخابي والعمل التواصلي والدعم اللوجستيكي.
فعلى مستوى الترشيحات، تم القطع مع الممارسات البائدة التي عانى الحزب منها في محطات سابقة واستحضار الملاحظات التي وردت في التقرير التركيبي حول الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2007، وتم تدبير الانتخابات الأخيرة باعتماد مسطرة شفافة، مدققة وواضحة، ومتفق عليها. وهكذا، أوقفنا تغييب دور التنظيمات الحزبية في تدبير ملف الترشيحات حيث كانت كل الترشيحات باقتراحات محلية وإقليمية لم تتدخل فيها القيادة إلا على مستوى المصادقة عليها فقط. وعلاوة على الإشراك الفعلي للأجهزة المحلية في تدبير الترشيحات، تم التعامل مع اللائحة الوطنية للنساء والشباب بأسلوب ديمقراطي واضح ومقاربة جديدة تجاوزت زمن الريع الحزبي وتغليب العلاقات الخاصة والقرابة العائلية.
وقناعة منا بأن الأولوية للبرامج لا للأشخاص، فقد بدأت الاستعدادات الأولى لخوض الانتخابات التشريعية بإحداث اللجنة الوطنية للانتخابات التي لعبت دورا حيويا في تعبئة الطاقات والكفاءات الحزبية لاقتراح برنامج طموح وناجع لمعالجة القضايا المجتمعية الأساسية. واعتمد الحزب منهجية جديدة لإعداد البرنامج الانتخابي حيث تم تشكيل لجان فرعية متخصصة حسب المحاور المحددة، وعقد العشرات من اللقاءات والندوات التي شارك فيها خبراء ومتخصصون ومثقفون في مختلف المجالات. وهكذا، تمت تعبئة الطاقات الحزبية لاقتراح برنامج طموح وناجع لمعالجة القضايا الراهنة مع إعداد وثيقة مرجعية تتضمن مختلف أشغال اللجان وتقارير الخبراء واقتراحات أعضاء الحزب والمثقفين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. كما تم تشكيل لجان تقنية لصياغة المشروع النهائي للبرنامج الانتخابي وفق مقاربة اعتمدت ثلاثة مستويات أساسية: أولا، تشخيص الوضعية ورصد المؤشرات، ثانيا، تحليل الاختلالات حسب القطاعات، ثالثا، تقديم الحلول الملائمة والبدائل وفق التصور الخاص للحزب. وتجدر الإشارة إلى أن البرنامج الانتخابي تميز بالتفاعل مع القضايا المجتمعية الملحة بحكم تزامن إعداده مع انخراط الاتحاد الاشتراكي، بشكل واسع وقوي، في الدينامية المجتمعية التي شهدها المغرب والمتجلية في التعبيرات الاحتجاجية والمطلبية للعديد من الفئات الاجتماعية والقوات الشعبية (الأساتذة المتدربين والأطباء والصيادلة والنساء والعديد من التنسيقيات الاجتماعية والتنظيمات المهنية).
الأخوات والإخوة،
لقد عمد الحزب، على صعيد التواصل الداخلي، إلى تنظيم وتأطير لقاءين تكوينيين لفائدة كتاب الجهات والأقاليم ووكلاء اللوائح المحلية ومساعديهم، تمحور اللقاء التكويني الأول حول تقديم وتفسير محتويات البرنامج الانتخابي للحزب وكيفية التواصل بشأنه مع المواطنات والمواطنين، فيما تناول اللقاء التكويني الثاني طريقة التدبير المالي للحملة الانتخابية وكيفية إعداد التقارير المتعلقة بالجوانب المالية.
وفي ما يتعلق بالتواصل الانتخابي، قام الحزب بتجديد موقعه الإلكتروني الرسمي وإطلاق النسخة الفرنسية منه، وأطلق لأول مرة إذاعة وتلفزة رقميتين خاصتين بالحزب سهرتا على المواكبة المباشرة لأغلب التجمعات الحزبية إبان الحملة الانتخابية وتغطية مختلف الأنشطة الحزبية على الصعيد الوطني والجهوي والمحلي. وإضافة إلى ذلك، تكلف الإعلام الحزبي (الاتحاد الاشتراكي وليبراسيون) بعمل مهني دؤوب لمواكبة مختلف أطوار الحملة الانتخابية وعرض محاور البرنامج الانتخابي وتقديم مرشحات ومرشحي الحزب. دون أن ننسى العمليات التواصلية الأخرى التي تركت استحسانا كبيرا لدى فئة واسعة من المواطنين والمواطنات: الوصلة السمعية البصرية الخاصة بالحملة الانتخابية للحزب، التدخلات المتميزة لمناضلات ومناضلي الحزب في الإعلام العمومي والخاص، التعاون الإيجابي مع مجموعة من المواقع الإلكترونية، وغيرها.
أما على المستوى اللوجستيكي، فقد تم الإعداد المبكر والجيد لكل مستلزمات الحملة الانتخابية سواء على المستوى الكمي والكيفي للمواد التواصلية، أو على مستوى التوقيت المبكر لتوفير الوسائل والدعائم اللازمة. فقد تم إعداد وطبع مختلف المواد بجودة عالية وكميات وفيرة من البرنامج الانتخابي، والحصيلة البرلمانية، والدليل الانتخابي، والوثيقة المتعلقة بالتدابير المقترحة، والمطوي الخاص بمقترحات البرنامج الانتخابي، والقصاصات والمناشير الانتخابية، والصدريات، والقبعات. والأكثر من ذلك، حرص الحزب على مواكبة وكيلات ووكلاء اللوائح المحلية سواء في الإعداد الفني لوثائقهم التواصلية ومنشوراتهم الانتخابية أو في صياغة وطبع برامجهم المحلية في انسجام تام مع التوجهات الأساسية للبرنامج الانتخابي للحزب.
الأخوات والإخوة،
أريد، بهذه المناسبة، أن أنوه بالمجهودات القيمة والتفاني الكبير الذي أظهرته كل من الإدارة الحزبية واللجنة الوطنية للانتخابات بحس جماعي تلقائي وخبرة علمية عالية مكنت الحزب من القيام بحملة انتخابية مهنية ومسؤولة.
كما أهنئ كل الأخوات الفائزات والإخوة الفائزين في هذه الانتخابات، وكل المرشحات والمرشحين باسم الحزب، الذين قادوا إلى جانب المناضلين والأطر الاتحادية، في مختلف الأقاليم، حملة قوية، نظيفة ونزيهة، بالاعتماد على الإمكانات الذاتية وعلى مناضلات ومناضلي الحزب والمتعاطفين معه، بحماس منقطع النظير، ترجمته التجمعات الحاشدة والمسيرات واللقاءات الكبيرة، التي عرفتها كل الدوائر، والتي شاركت فيها جماهير غفيرة، حضرت لدعم حزبنا ومرشحاته ومرشحيه.
وبنفس الحرارة، أشكر المواطنات والمواطنين الذين استجابوا للواجب الوطني بمشاركتهم في عملية التصويت، والذين وضعوا ثقتهم في اللوائح المحلية واللائحة الوطنية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومشروعه الديمقراطي والمجتمعي، الذي يدافع عن مبادئ التعددية والمساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.
غير أنه بقدر ما يعتز الحزب بالمجهودات التي بذلها المناضلون والأنصار، في شرح البرنامج الانتخابي والتواصل مع الجماهير، والدفاع عن لوائحه ومواقفه، بقدر ما يعبر عن خيبة أمله من النتائج المحصل عليها، والتي لا تعبر عن المكانة الحقيقية لحزب في مستوى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بتراثه النضالي، وحصيلته البرلمانية، تشريعيا بمقترحاته الجادة، ورقابيا بطرح كل قضايا المجتمع، ومبادراته البرلمانية المتعددة، وحضوره الجماهيري، وانخراطه بقوة في الحراك الاجتماعي سواء في ملف الاساتذة المتدربين، ومهنيي البلاستيك، والدكاترة المعطلين، والمحاسبين المعتمدين وكذا المتقاعدين والنساء وغيرهم.
الأخوات والإخوة،
مباشرة بعد الإعلان عن النتائج، اعتبر الاتحاد الاشتراكي في حينه أنها لم تؤد إلى فرز حقيقي بين الأغلبية والمعارضة، حيث تقدم، في هذه الانتخابات، حزبان من كلا الطرفين، في الوقت الذي تراجعت باقي الأحزاب، سواء تلك التي كانت مشاركة في الائتلاف الحكومي أو خارجه. وهكذا، تم تكريس قطبية مصطنعة، طالما عبر الحزب عن قلقه وتشكيكه القوي، في هذه القطبية المصطنعة، منبها إلى أنها غير مبنية على أي أساس سياسي، أو اختيارات اقتصادية أو اجتماعية، بل هي مجرد تموقع انتخابي، تم الحصول عليه بطرق قوامها الغالب هو المال من جهة، و”المساعدات” العينية، تحت غطاء الإحسان من جهة أخرى، وتدخلات بعض مسؤولي الإدارة الترابية وأعوانها من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب بالذات، كنا قد قدمنا مقترحات حول المنظومة الانتخابية، قصد إعادة النظر فيها بطريقة شمولية بهدف فرز تمثيلية حقيقية نزيهة وشفافة، للأطياف السياسة، وكان واضحا أن الرفض الذي تمت مواجهتنا به، هو الذي أدى عمليا إلى ما نعيشه اليوم من تقاطب مصطنع لا يخدم التعددية السياسية التي اعتمدها بلدنا، وإن كنا واثقين أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقضي على الأحزاب الوطنية الديمقراطية، لأنها خرجت من رحم الشعب المغربي، ولأنها ليست مجرد هيئات ذات طبيعة ظرفية، تمليها نزوعات الهيمنة أو إكراهات التوازنات الاستراتيجية.
أمام هذا الوضع، أصبح لزاما على حزبنا تحمل مسؤوليته للتنديد بالمظاهر الخطيرة، التي شوهت، بشكل جلي، المنافسة الانتخابية، فلا يُمكن أن تكون المنافسة شريفة ومتكافئة إذا كانت بعض أطرافها تلجأ إلى استغلال الجمعيات الدعوية في التجييش الانتخابي، وصرف الأموال الطائلة التي يُجهل مصدرها ومدى قانونية تحصيلها وتوزيعها، وإلى التغطيات الإعلامية والبهرجة والتحركات والمهرجانات بشكل يُبين تجاوزها للسقف المحدد للمصاريف الانتخابية، ومهاجمة الخصوم السياسيين بخطاب يتسم بالكراهية والتحريض، واستفحال ظاهرة شراء الأصوات دون ردع، والتدخل المباشر لبعض رجال السلطة وأعوانها ورؤساء مكاتب التصويت للتأثير على الناخبات والناخبين بأساليب تُذكرنا باستحقاقات ما قبل سنة 1997.
لكل هذا، فإن النتائج المحصل عليها، من طرف الاتحاد الاشتراكي، ليست إلا انعكاسا جليا لهذه الممارسات المشينة، التي انطلقت مع الرفض الممنهج للمقترحات التي تقدمنا بها من أجل إصلاح منظومة انتخابية أصبحت متجاوزة نتيجة التحولات الديمغرافية والسوسيولوجية والعمرانية، التي عرفها المغرب، والتي تستدعي مراجعة شاملة لمنظومة انتخابية استنفذت كل أغراضها.
ومما يُبين صحة وجهة نظرنا، خطورة ظاهرة العزوف الانتخابي المتزايد، حيث أنه رغم أن عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بلغ حوالي 16 مليون ناخب، من أصل 28 مليون مواطنة ومواطن في سن التصويت، فإن المشاركة كانت متواضعة، حتى بالنسبة للمسجلين في اللوائح الانتخابية، إذ بلغت نسبة الذين لم يصوتوا منهم،57 %، في حين ترتفع هذه النسبة إلى 75 % ممن يحق لهم التصويت، في الوقت الذي لا يُمكن إشراك الشعب في الشأن العام وبشكل حقيقي وديمقراطي إلا بمشاركة فاعلة للشعب في الحياة العامة.
وبالموازاة مع هذه الأوضاع، فإن مسلسل استهداف حزب الاتحاد الاشتراكي أخذ أبعادا مُتزايدة وصلت حد محاولة تبخيس دوره، وصورة نُخبه، بل وترويج الإشاعات الرخيصة حولها، ولم يسلم من ذلك تنظيمنا الحزبي الذي عمل “الخصوم” على تضخيم خلافاته الحزبية الداخلية بل وتشجيعها بمختلف الأشكال والوسائل، بهدف تشتيت صفوف الحزب، تمهيدا للقضاء عليه، وهي المهمة التي مازالت متواصلة، من خلال محاولة التقزيم الانتخابي.
ورغم كل ذلك، حافظ الاتحاد الاشتراكي على عدد الأصوات في الانتخابات التشريعية لسنتي 2007 و2011، لكن الانخفاض الطفيف في عدد الأصوات المحصل عليها هذه المرة كان كارثيا على مستوى المقاعد المحصل عليها. فكيف يُعقل أن يؤدي فقدان قرابة 40 ألف صوت إلى فقدان 20 مقعدا؟ أن هذا الخلل بالذات هو الذي كنا نحاول تجاوزه بمقترحاتنا التي تم رفضها، والتي تؤكد صحة تحليلنا وعملنا على تغيير المنظومة الانتخابية برمتها، وتُعطي مشروعية أكبر للمذكرة التي تم رفعها لصاحب الجلالة.
وعلى الرغم من ضبابية المشهد الحزبي نتيجة ما آلت إليه الاستحقاقات الأخيرة، أبانت النتائج تصدر الاتحاد الاشتراكي لنتائج اليسار، حيث احتفظنا بالمرتبة الأولى سواء على صعيد عدد الأصوات المحصل عليها أو عدد المقاعد، ضدا على المغالطات الإعلامية التي يتم ترويجها.
وأمام هذه الاختلالات التي عرفها المسلسل الانتخابي، من مبدئه إلى منتهاه، تقدم الحزب بـ 16 طعنا ضد مرشحي أحزاب مختلفة. وقد اقتصرنا على هذه الطعون لكون أنه لم يكن يحدونا هاجس الكم، بل اختيار الدوائر التي عرفت مخالفات مضبوطة، والتي استطاع الحزب ضبطها. ويتعلق الأمر أساسا بانحياز السلطة العمومية لأحد المرشحين على حساب الآخرين، وخرق القانون من خلال ممارسات تدليسية تتمثل في استعمال المقدسات الدينية والرموز الوطنية من قبل بعض المرشحين، إضافة إلى ما عرفته دوائر كثيرة من استعمال للمال قصد شراء الأصوات.
بالإضافة إلى الطعون المحددة، لم يجد الحزب بدا من توجيه مذكرة سياسية وأكثر شمولية إلى جلالة الملك، طبقا للفصل 42 من الدستور، باعتباره الحكم الأسمى بين المؤسسات والساهر على احترام الدستور والضامن لحسن سير المؤسسات الدستورية وصيانة الاختيار الديمقراطي وحماية حقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وهي المذكرة التي ضمنها تصورا متكاملا حول ما نبتغيه من إصلاحات سياسية، وعلى رأسها التغيير الشامل للمنظومة الانتخابية لاعتبارات تسمو فوق أي اعتبار ظرفي أو أي حسابات ضيقة، لأن الأمر لا يتعلق بموقف ذاتي أو رد فعل على نتائج الاستحقاقات الأخيرة، وإنما يتعلق بموقف ومقاربة هما في الواقع، من صميم المصلحة الوطنية. فالبناء الديمقراطي ليس طرفا، بل هو أساس تقوية المؤسسات التي تحافظ على الاستقرار وتضمن السلم والأمان.
إن المسلسل الديمقراطي ومتطلباته ببلادنا مرتبط بالقوى السياسية. فضعف أو إضعاف الأحزاب السياسية التي لها تمثيلية مجتمعية، تبخيس للسياسة وبالتالي مسلك ضار بالمصلحة الوطنية ويرجع عقارب الساعة الى الوراء، ولا يتماشى مع متطلبات المرحلة التي تجتازها بلادنا، والتي لا يُمكن معها فتح الباب أمام المجهول.
وقد وقف المكتب السياسي مطولا عند هذه الوضعية، واعتبر أنه من الضروري الاستمرار في النضال من الموقع الذي ستختاره له الأجهزة الحزبية التقريرية، وهو ما يتحقق اليوم من خلال اجتماع اللجنة الإدارية في هذه الظرفية الدقيقة.
إن هذه العوامل الموضوعية، التي جعلتنا نعتبر أن نتائج الانتخابات لا تمثل معطى طارئا أو مفاجئا بقدر ما هي امتداد طبيعي لتراكمات سلبية تؤكد ما يعرفه المشهد السياسي الوطني من أزمة تطال وضعيته، لا ينبغي أن تكون سببا لإعفاء أنفسنا من ضرورة استحضار العوامل الذاتية من خلال حوار صريح بين عموم الاتحاديات والاتحاديين حول مسؤولية تنظيماتنا. إن آلية النقد مسألة إيجابية تُقوي كل تنظيم حزبي حينما يتم وفق منهجية يتم فيها مقابلة النقد بالنقد الذاتي.
إن الأصوات الاتحادية التي طالبت، مباشرة بعد إعلان النتائج، بالتقييم والنقد الذاتي، ينبغي أن تستحضر أولا كل العوامل الموضوعية التي أشرنا إليها أعلاه، قبل التسرع في إطلاق أي حكم على التجربة التي خضناها في استحقاقات 7 أكتوبر.
وحتى نكون موضوعيين، فإنه من المهم هنا التساؤل أولا عمن ينبغي أن يُقدم النقد الذاتي: هل الفئة التي كانت تخوض المعركة الانتخابية في الميدان أم الفئة التي تخلت عن مسؤوليتها وتركت مرشحاتنا ومرشحينا الذين اختارتهم تنظيماتهم المحلية بكل شفافية وديمقراطية، يتحركون لوحدهم؟ إن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، بل تحول البعض إلى خصم يعمل ضد الاتحاد الاشتراكي وضد لوائح الترشيح التي قدمها.
إن تحديد الفئة التي ينبغي أن تُقدم النقد الذاتي مسألة في غاية الأهمية لأنها ستُبرز الفئة التي عملت ضد الحزب (أفرادا وجماعات) عن الفئة التي بقيت وفية لمبادئها. إن غياب البعض نهائيا عن العملية الانتخابية، وضعف بعض التنظيمات التي كانت تعاني من مشاكل مزمنة فلم تعمل على تسوية وضعها التنظيمي مما أدى إلى أننا في بعض الأحيان أمام وضعية تحول فيها البعض إلى أعداء للحزب، والغريب أنهم هم من طالبوا مباشرة بعد الإعلان عن النتائج بالتقييم والنقد الذاتي. فمن سيقدم النقد الذاتي من كان ينتقد ويحارب مرشحي الحزب أو يتعامل مع مرشحين منافسين، أم من كان محاربا في الميدان؟
وهنا لا يجب الخلط بين الاتحاديين وبين الذين تخلوا عن انتمائهم للحزب منذ سنوات أو عقود في بعض الأحيان، لكنهم لا يجدون حرجا في كل محطة نضالية من تذكر صفتهم الحزبية التي تخلوا عنها بمحض إرادتهم سعيا وراء مصلحة آنية أو انخراطا في مشاريع سياسية أخرى أو بديلة، أو تمتعا بوضعيات وصفات إدارية أو مؤسساتية آلت إليهم بصفتهم الحزبية السابقة التي تنكروا لها، لكنهم يحرصون في كل محطة حزبية التحدث للإعلام مصرين على تقريع الحزب والإساءة لمناضليه وأطره وقيادته.
فليس لهؤلاء أتوجه، بل إننا وبشكل محدد نتوجه للفئات التي تحدثنا عنها سابقا والتي لم تتخلى عن عضويتها في الحزب ولم يُتخذ في حقها أي قرار تأديبي، لنقول لهم إن تجاوز هذه الوضعية لا يُمكن أن يتم إلا بتوجه كل الاتحاديات والاتحاديون نحو المستقبل، متحملين مسؤوليتهم الكاملة أمام ما ينتظرنا من محطات تتمثل في ربح رهان المؤتمر الوطني العاشر، التحضير لانتخابات 2021 من اليوم. وفي هذا الصدد، فإنه لم يعد هناك أي معنى لوجود التنظيمات المحلية إذا لم تُعالج مشاكلها وتشرع من الآن في وضع خريطة للترشيحات لكل الاستحقاقات القادمة.
وفي هذا الصدد، فإننا ندعو كل الأجهزة التنظيمية إلى العمل على “تبطيق” كل العاطفين والعاطفات على الحزب، والمساهمين في الحملة الانتخابية لاستحقاقات 7 أكتوبر، وذلك للانفتاح على كل من يدعم الخط السياسي لحزبنا، وللعمل بشكل أوسع مع مختلف الفئات الشعبية التواقة إلى ترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات.
كمنا أننا ندعو إلى اعتماد سياسة القرب بشكل يُغير من طبيعة مقراتنا الحزبية التي لا يُمكن أن تبقى مجرد أماكن للاجتماعات الدورية أو بعض اللقاءات المحدودة، وذلك لنجعل منها ورشا للعمل المستمر القائم على استقبال المواطنات والمواطنين من كل الفئات، والاستماع إليهم، ومواكبة انشغالاتهم، وإيجاد الحلول الملائمة لمشاكلهم.
إن اتباع هذا النهج، هو الذي سيُمكننا جماعة من التوجه نحو المؤتمر الوطني العاشر، بكل عزيمة وإصرار على جعله محطة نوعية جديدة، تنضاف للتراكمات التنظيمية التي انطلقت مع المؤتمر الوطني التاسع.
وفي نغس السياق، فإننا سنقوم بتفعيل فكرة “البرلمان الموازي” الذي سيشمل كل وكلاء ووكيلات اللوائح التي قدمناها للترشيح، مع فتح المجال أمام كل أعضاء هذه اللوائح المحلية منها والوطنية للاجتماع بصفة دورية، والتداول حول قضايا البلاد، والمشاكل النيابية، وجمع المقترحات في كل ما يتعلق بمشاريع القوانين المطروحة للتداول، أو مقترحات القوانين التي سنُقدمها، وكل ما يتعلق بمراقبة العمل الحكومي. وسيكون هذا “البرلمان الموازي” وسيلة لضمان التواصل من جهة، والمساهمة في التحضير للاستحقاقات القادمة من جهة أخرى.
إن الاتحاد الاشتراكي مطالب بأن يقوم بواجبه وأن يعمل كل ما في طاقاته من أجل ألا يُرهن مستقبل مسار تحديث ودمقرطة بلادنا، سنده في ذلك ما يمتلكه من خزان ذاتي وجماهيري، نضالي وتاريخي، ومن مبادئ راسخة نابعة من طموحات وتطلعات الشعب المغربي وقواه التقدمية والديمقراطية. وهو السند الذي سيتحول إلى حركة تصحيحية حقيقية من أجل مواصلة إعادة بناء الحزب وإعطاء نفس جديد للمسار الديمقراطي والارتقاء به
الأخوات والإخوة؛
قبل الدخول في تفاصيل المشاورات لتشكيل الحكومة، أعبر أولا عن الارتياح لما ورد في الخطاب الملكي، خاصة حديث جلالة الملك عن “حكومة جادة ومسؤولة وتجاوز المنهجية الحسابية ومنطق الغنيمة الانتخابية”، لقد أكد جلالته على “البرنامج الواضح، والأولويات المحددة، والهيكلة الفعالة والمنسجمة والكفاءات المؤهلة، التي تتلاءم مع البرنامج والأسبقيات لتجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية”. وإننا إذ نتقاسم بشكل واضح هذه التوجيهات الملكية، بخصوص تشكيل الحكومة المقبلة، نُذكر بالمواقف التي سبق أن عبر عنها حزبنا في بلاغ مكتبه السياسي، بتاريخ 21 أكتوبر 2016، بعد اللقاء التشاوري، مع رئيس الحكومة المعين، حيث أكد على “الأولوية التي ينبغي أن تحظى بها البرامج والمواقف والمشاريع، بهدف تحصين الاختيار الديمقراطي، والتفعيل الأمثل للدستور، والاستجابة لمطالب الجماهير الشعبية”. وهو ما سبق أن أكدت عليه في استجوابي مع جريدتي “الاتحاد الاشتراكي” و“ليبراسيون”، حيث قلت إن المشاورات هي التي ستحدد ظروف وشروط المشاركة في الحكومة، مؤكدا “أن مايهمنا هو البرنامج الحكومي، وتحديد الأقطاب الأساسية بشأنه، وترتيب الأولويات، على أساس هيكلة جديدة للحكومة، تتوخى التقليص من عدد أعضائها، وكذلك الفعالية والنجاعة في عملها”.
إننا نعتبر أن حجم التحديات الداخلية والخارجية، المطروحة على المغرب، تفرض الإرتقاء، بالمشاورات الجارية لتشكيل الأغلبية، إلى مستوى دقة المرحلة وحساسيتها، للتفاعل القوي مع معركة الدفاع عن الوحدة الترابية، ولتجاوز الصعوبات والاستجابة لانتظارات الجماهير والتجاوب مع طموحات الفاعلين، في مختلف المجالات، وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا باعتماد رؤية واضحة، للبرامج والأولويات والكفاءات، قبل الحسابات العددية وتوزيع الحقائب.
أما فيما يتعلق بالمشاورات، فإن الاتحاد الاشتراكي ثمن ما جاء في اللقاء التشاوري الذي جمعه مع رئيس الحكومة، وعبر عن وعيه التام، بحجم التساؤلات المطروحة من طرف مناضلاته ومناضليه، ومن طرف الرأي العام، حول آفاق العمل السياسي، لحماية الديمقراطية والمؤسسات، كما أكد على أن الأولوية التي ينبغي أن تحظى بها مشاورات تشكيل الحكومة، مع باقي الأحزاب، يجب أن تنبني على البرامج والمواقف والمشاريع، بهدف تحصين الاختيار الديمقراطي، والتفعيل الأمثل للدستور، والاستجابة لمطالب الجماهير الشعبية وطموحاتها.
إن مشاركة الاتحاد الاشتراكي في أية تشكيلة حكومية، سيبقى دائما رهينا بشروط تتجاوز النقاش التقني المرتبط بعدد الحقائب الوزارية ونوعيتها، وتضع أسسا صلبة لأي عمل حكومي مستقبلي، فنحن نعتبر أن المشاورات حول تشكيلة الحكومة ينبغي أن تتم ضمن سياق معين، تكون معالمه الرئيسية محددة مسبقا ومُتعاقد بشأنها.
وفي هذا الصدد، فإن إعلاننا المبدئي ما زال قائما ومرتبطا بالعرض الذي ننتظره من رئيس الحكومة المعين. وهو عرض نتمنى ألا يكون عرضا تقنيا، بل عرضا سياسيا واضحا قائما على أسس صلبة تُراعي برنامجنا الانتخابي مؤكدين أننا سندرس كل عرض، ونحدد موقفنا على ضوء المعطيات، وليس بناء على اختيار جاهز، لأن حزبنا لا يستمد موقعه من وجوده في الحكومة أو المعارضة، بل من الدور الذي يمكن أن نلعبه في البناء الديمقراطي والتنموي وتغيير الأوضاع للأفضل.
فما تحتاجه بلادنا هو:
1 – حكومة منسجمة ببرنامج إصلاحي واضح يركز على الأولويات الاقتصادية والاجتماعية لتجاوز الصعوبات المختلفة الناتجة عن تفاقم مشاكل البطالة والتهميش والهشاشة ؛
2 – إعطاء أهمية بالغة لقطاعات التربية والتعليم والصحة ؛
3 – تطوير العلاقات مع الفرقاء الاجتماعيين ؛
4 – مراجعة العلاقات مع البرلمان ومختلف المؤسسات بما يضمن احترامها من طرف الجميع؛
5 – إنشاء المجالس والهيئات التي ينص عليها الدستور اعتمادا على منهج الكفاءة والموضوعية.
إن التدابير التي يتضمنها برنامجنا ليست مجرد تدابير عشوائية، بل إنها قائمة على منهجية تُراعي طبيعة العمل الحكومي الذي سيتكفل بتنفيذها، فهي موزعة على 5 مجالات كبرى توازي عمليا 5 أقطاب حكومية كبرى، تستوعب كل القطاعات الوزارية. وبالتالي لا يُمكن والحالة هذه ألا يتضمن العرض الحكومي التزاما صريحا بفتح المجال لنا للمساهمة في تنفيذ هذه التدابير، وتضمينها في البرنامج الحكومي.
الأخوات والإخوة
إننا لا ننظر الى المشاركة في الحكومة، كما لو كنّا ذاهبون إلى نزهة، فنحن واعون بالصعوبات والمشاكل والتحديات، كما أننا حزب قضى أربعين سنة في المعارضة، بكل قساوتها وتضحياتها، ولم يشارك في حكومة التناوب إلا في اطار توافق، مع الملك الراحل الحسن الثاني، بعد أن وصلت البلاد للسكتة القلبية.
وقد ساهم حزبنا في أوراش الإصلاح، بعد ذلك، من موقع المشاركة الحكومية، إلى أن إختار عن طواعية، في سنة 2011، العودة لصف المعارضة، فحزبنا ليس من عشاق المناصب الحكومية والحقائب الوزارية، فهو لا يختار موقعه إلا بناءا على ما يمكن أن يحققه من مكاسب للشعب، وما يمكن إنجازه من مشاريع لصالح الوطن.
ولذلك فإذا كنّا قد عبرنا عن إرادتنا في تيسير مهمة رئيس الحكومة المكلف، فإننا ننتظر عرضه الملموس، لنرى إلى أي مدى يتجاوب مع طموحاتنا، لتحقيق هذه الغايات، إي مكاسب للشعب والوطن. فنحن منفتحون على هذا العرض، بكل حسن نية، لمناقشته دون أي موقف مسبق، مستحضرين التوجيهات، التي وردت في الخطاب الملكي، الأخير.
وننتظر من اللجنة الإدارية، التداول في هذا الموقف، بناءا على تاريخ حزبنا وعلى تراثه النضالي، الذي وضع، دائما، المضمون قبل الشكل والأفكار قبل الأشخاص والمشاريع قبل المسؤوليات، معتبرا أن بوصلته هي البرامج والتصورات والوضوح.
إننا عندما نقترح هذا الإختيار، فلأننا نعتبر أن الإشكالات التي تواجهنا وتواجه بلادنا، تتجاوز مسألة المشاورات الحالية، وخاصة أن المشاورات الأخيرة أبانت عن مسلكيات يؤكد الاتحاد الاشتراكي رفضه لها في ما يتعلق بالأقطاب. وفي هذا الصدد، فإننا نذكر بتجربتنا الرائدة لحكومة التناوب، والتي تمكن من خلالها حزبنا من المحافظة على علاقاته الثنائية مع الأحزاب السياسية الرئيسية بالبلاد، رغم التحافات التي كانت قائمة آنذاك والتي قسمت البلاد إلى كتلة ووفاق ووسط، ودون أن يكون لذلك تأثير على أحزاب تربطنا بها علاقات متينة.
فعلى سبيل المثال، شكلت علاقتنا مع التجمع الوطني للأحرار نموذجا جيدا، سواء خلال مرحلة معارضة ما قبل سنة 1998 حيث كان هذا الحزب منفتحا على الاتحاد الاشتراكي بشكل مُتميز ومطبوع بعلاقة تتجاوز مواقعنا التي كانت متباينة، لدرجة أننا لم نتردد أية لحظة في فتح حوار معه قصد المشاركة في حكومة التناوب، متجاوزين بذلك كون أننا كنا ننتمي آنذاك للكتلة الديمقراطية. وطيلة مشاركتنا في الحكومات الموالية، كانت هذه العلاقة تزداد متانة لدرجة أنها لم تتأثر بخروجنا للمعارضة بعد انتخابات 2011 التشريعية.
والاتحاد الاشتراكي، إذ يُذكر بهذا النموذج، يعتبر أن موقفه الراسخ، يتطلب منه الاستمرار في نفس النهج بخصوص المشاورات الحكومية الجارية حاليا، وذلك بالدعوة للقطع مع سياسة الأقطاب كيفما كانت طبيعتها، وفتح المجال أمام العلاقات الثنائية دون ربطها بأية قطبية أو تكتل كيفما كانت تسميته. فالاتحاد الاشتراكي برصيده النضالي والتاريخي لا يُمكن أن يتم “تذويبه” في أي تكتل، أو التحاور معه على أنه “جزء” من إطار أشمل. وبنفس المنطق، فإنه لن نقبل أن يتحاور معنا أي تحالف من أي نوع كان، بل سنجعل من العلاقات الثنائية الأساس الذي سيبني عليه مواقفنا.
لقد سبق أن طرحنا مختلف هذه الإشكالات، عندما إقترحنا مراجعة شاملة للمنظومة الإنتخابية، في اطارالإصلاح السياسي الشامل، حيث لا يمكن إن نتصور أن دستور 2011، سيفعل وحده، بشكل تلقائا، إذا لم يكتسب أيادي للعمل وأرجلا لكي يمشي على الإرض.
إن هذه المنهجية، وسيلة لاعتماد عمل حكومي تعاقدي وتشاركي، لا يجعل من الحقائب الوزارية هدفا في حد ذاته، وإنما وسيلة نعتبرها فعالة للدفع بالعمل الحكومي إلى مرتبة الالتزام الفعلي ببرنامج قابل للتطبيق من جهة، وقابل للتقييم والمحاسبة من جهة أخرى.
إلا أن هذا الأمر ينبغي ألا يحجب عنا الجانب التنظيمي للحكومة، والذي ينبغي بدوره أن يكون محط مشاورة تستهدف عقلنة تنظيم القطاعات الوزارية، وتجميعها بشكل يتجاوب مع التطلعات الشعبية في حكومة منسجمة، وبقطاعات وزارية معقولة، وميزانيات سنوية تتلاءم مع البرنامج الحكومي، وحلفاء يتمتعون بالتفاني في تطبيق هذا البرنامج.
وآنذاك فقط، لن يتردد الاتحاد الاشتراكي في الانخراط في الحكومة القادمة.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
إن اللجنة الإدارية، مدعوة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، لاتخاذ ما يلزم من قرارات وتوصيات تسمح للمكتب السياسي بتدبير المرحلة الدقيقة القادمة بما يلزم من تقييم دقيق للوضع السياسي والحزبي ببلادنا. فنحن ننطلق في مختلف اختياراتنا من متطلبات البناء الديمقراطي، ولا يُمكن أن ننحاز إلا للصف القادر على خدمة الجماهير الشعبية، سواء في النضال من أجل احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان أو تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة، عبر إصلاحات شاملة، وستضل هذه المبادئ، دائما، البوصلة التي تحكم توجهاتنا ونضالاتنا.
تعليقات الزوار ( 0 )