هو سيرث الأرض، وإن مات . سيرثها بقفسطه من الدم الذي رواها، بالفيء الذي ناله من ظلالها وأقبيتها.سيرث الأرض، لأنه سيرث العلماء وسيرث الأنبياء على حد سواء. الحاج علي المانوزي، الذي ودعناه في نهاية الأسبوع، رحل وهو لا يدري بعد نهاية القصة الرهيبة التي نقلت ابنه من حضن الوالدة والوطن إلى .. زاوية في الغياب. ستبقى في وديان الأرض العميقة حشرجته وهو يتذكر أنه لا يتذكر كيف ودع ابنه الحسين، الذي اختطف، في إصرار دموي ربط بينه وبين المهدي بن بنبركة في أكتوبر 1972. وهما معا جعلا أكتوبر أقسى الشهور في عمرنا.. كانت الجبال تعرفه، ولهذا، في تناسل المهارات البلاغية، سبقت قصيدة الشاعر ورمت معاطفها عليه .. خبأته.. في البادية لكي ينسل من هذا إلى التاريخ ثم بعدها لم ولم تخبئه من مجده.. ورمته إلى جلاديه. السي علي، كان مثل شجرة الأنساب الطويلة. كان الإخوان والأهل يتساقطون من حوله مثل أوراق القدر. تساقطوا كلهم إلى الساحة الواسعة للكفاح.. ولم يطلبوا شيئا، لهذا قلبت الأرض ترابها قرابها وقلبت خزائنها، فأعطته القبر تارة وأعطته الزنزانة تارة وفي الأخير أعطته نفسها.. لهذا سيرث الأرض.. مولاي علي ودع إبراهيم شقيقه، كما يتم الوداع في الاسطورة. شقيق يفقد شقيقه في فجوة فجوات البشرية، وفي لحظة يتعالى فيها الاستبداد. كان إبراهيم نائما في بيته، عندما جاؤوا واعتقلوه بتهمة المشاركة في انقلاب 1971. والحقيقة أن الاستبداد العسكري كان يمهد الطريق لكي يبقى وحيدا، ولهذا كان من الضروري في أجندة الانقلاب أن تفرغ البلاد من مقاوميها الذين التحقوا بالجيش.وظل علي المانوزي يوزع حذقاته بين ظلمة هذا القبو وهذه الزنزانة، ويوزع، أيضا، فراغات قلبه على الأهل : 16 مناضلا من بين عشيرة تسير بعينين مفتوحتين نحو الأبدية.. في بساطته وفي عنفوان إيمانه ما يزعج الجنرال وما يخطف النوم من عيون القتلة.. لهذا ينام بعد رحيله، ولا يحلم سوى بمكان ما لكي يضع فيه جثمانه، ولو رمزيا.. مكان ما من الأرض لكي يعود إليها بعد أن تنام المجرات.. وينام الأحياء، وينام الذين لا ينامون عادة: الغائبون. ماذا لو أن البلاد وهبته، وهو في النزع الأخير من مجده .. بقعة لجثة ابنه ونهاية يرتاح إليها في الذكريات؟ الذكريات: هو ذا رجل يرحل بدون أن يتركوا له تحت الشمس تربة يخلل يخلد بها ذكريات عن ابنه. هو ذا رجل وامرأة منعهما قرار الدولة من أن تكون للابن نهاية بلا بداية وتفاصيل حياته الأخيرة قبل موته ولا شيء يدفنان فيه ابنهما سوى القلب. لهذا سيرث الحاج علي الأرض..لأنها أكبر من عقارات، وأكبر من بنايات للسلطة، وأكبر من مربعات للكراسي، وأكبر من إرث فعلا بين الوثائق .. والجدران والإقامات.. زفتها الأرض إلى نفسها،الحاج علي لكي تشعر بانسابتها في هذا الرجل الاستثنائي. الذي يرحل بعد أن لم يعد لنا شيء فعلا استثناء يمكن أن نضع عليه رأسنا ونحلم.. يا أبانا الذي في المقبرة كأنما كلنا فيك اجتمعنا فهذه الأرض يا أبانا أنت في سمائها .. استثناؤها. فالأرض التي تعرف أحباءها قد تهديهم أحيانا نفسها في شكل قبر، ترفع القبر لكي تسكنه روح جماعيا، احتفاء بالذي لا قبر له ..في نهاية الذاكرة. أبانا يا صديقنا الذي وهبته لنا السماء لكي يسكن أرضها .. يا علي نحن أهل جنوبك يا علي.. غدا فوق قبرك، بعد أن يكتمل الربيع، ستكون الشهور أحلى والحقول أحلى والقمح أحلى.. غدا في قبرك ستكون أحواض أحلى وأسرة من الروائح الخفيفة، تلك التي تأتي عادة من الفردوس.. وتسبق عادة أبناءك الشهداء. الذين ينتظرون، أحيانا، الفرصة من أجل العودة. مثل رحيلك تماما.
تعليقات الزوار ( 0 )