محمد إنفي

لقد انتظرت حوالي أسبوعين قبل أن أطرح هذا السؤال. ولم يكن الانتظار إلا بهدف ترك الوقت للخبر حتى ينتشر، رغم أنه ليس من الأخبار العادية؛ فهو يشكل مفاجأة حقيقية باعتبار الوضع السياسي والحركي والتمثيلي لصاحب الدعوة (قيادي بحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح وبرلماني) وباعتبار السياق الذي أُطلقت فيه هذه الدعوة (خلال ندوة نظمتها حركة التوحيد والإصلاح بمدينة سلا يوم السبت 19 مارس 2016).

وقد تناولت الصحف الإليكترونية والمواقع الاجتماعية (“فيسبوك”، مثلا) دعوة “المقرئ أبو زيد”إلى مراجعة أحكام الإرث، بنوع من الدهشة والاستغراب، نظرا لمواقف الرجل المعروفة في هذا المجال؛ وآخرها موقفه من تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول “وضعية المساواة والمناصفة في المغرب”، حيث كال لهذه المؤسسة الدستورية أثقل الاتهامات، ومنها التبعية لجهات خارجية. وهكذا، قال في تصريح لموقع “هوية بريس”: “إن جرأة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في إصدار هذه التوصية [يقصد التوصية حول الإرث] ليست آتية من داخل هذه الهيئة، بل هو دس وتحريك من جهة خارجية دفعت به إلى أن ينتحر اجتماعيا وسياسيا بهذا النوع من القفزات في الهواء”.

وإلى اليوم، لم أعثر على أي رد فعل لأصحاب مقولة “لا اجتهاد مع النص”، عن دعوة “أبي زيد” إلى إعادة قراءة نصوص القرآن الكريم من أجل تقسيم عادل للإرث، مستندا في دعوته على كون الرعاية والوصاية والنفقة التي كانت مفروضة على الرجل تجاه المرأة لم تعد كما كانت يوم نزل القرآن (وهذا أمر قد أصبح من البديهيات، ولا تتجاهله إلا العقول المتكلِّسة)، داعيا إلى إعادة النظر في منظومة الإرث بشكل يتناسب والقيم السائدة في المجتمع المغربي اليوم؛ مما يستوجب، حسب قيادي حركة التوحيد والإصلاح، قراءة تطويرية لآيات القرآن الكريم.

لقد خرست، أمام هذه الدعوة، ألسنة أصحاب النعيق والزعيق، وعلى رأسهم”أبو الجحيم”، عفوا “أبو النعيم” (تجنبا للسقوط في إثم الاسم الفسوق). مما يؤكد أن تجار الدين ملة واحدة (ليس في القنافذ أملس، كما يقال). فتوظيف الدين ضد الخصوم السياسيين عملة “إخوانية” (نسبة إلى حركة الإخوان المسلمين) بامتياز. أضف إلى ذلك، أنهم يريدون أن يحتكروا الكلام على الدين وباسم الدين لأنفسهم باسم الاختصاص. فكل من عبر عن رأي لا يساير توجههم إلا وكفَّروه أو على الأقل استكثروا عليه الخوض في الموضع بدعوى أنه ليس من أهل الاختصاص.

نتذكر كيف ثارت ثائرة السلفيين عندما دعا الأستاذ “إدريس لشكر”، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، إلى فتح نقاش حول مسألة الإرث، رغم أنه لم يزد على حث أهل الاختصاص على الخوض في الموضوع. وقد اتهموه بالهجوم على القرآن والسنة، وكفَّروه هو وحزبه. بل وصل الأمر بالمدعو “أبو النعيم” أن يجعل من الأستاذ “لشكر” موضوعا لسلسلة من “دروسه” المقيتة والخبيثة التي تذكرنا، من خلال العنوان الذي اختاره لهذه السلسلة (“لشكر تلميذ بنبركة في الإجرام”)، بصنف من “العلماء” العملاء الأنذال الذين وجد فيهم الاستعمار الدعم والمساندة في محاربة الوطنيين(من سياسيين وعلماء ومقاومين) والعمل على نشر ثقافة الخضوع والخنوع حتى يستتب الأمر للمستعمر.

ويتوفر “أبو النعيق” هذا على صفحة خاصة على “الفيسبوك” وقناة رسمية على “اليوتوب” بنشر عبر أشرطها المصورة الفتنة والتحريض على القتل من خلال دعواته التكفيرية التي لم يسلم منها لا الأفراد ولا المؤسسات. فكل فرد عبَّر عن رأي لا يوافق هواه وكل مؤسسة إعلامية (أو غير إعلامية) نشرت أو أقدمت على ما لا يلائم “ذوقه” (إن كان له ذوق)، إلا ويتعرضون لتهمة التكفير والخروج عن الملة. والغريب في الأمر، هو سكوت النيابة العامة على مثل هذه التجاوزات الخطيرة التي تهدد استقرار البلاد بفعل نشر فكر التطرف والإرهاب.

ويحق للمرء أن يتساءل، في هذا الخضم، ليس فقط عن الأسباب التي جعلت الأصوات المدافعة عن قطعية النصوص في أحكام الإرث، تصاب بالخرس، بل وأيضا عن الدوافع الحقيقية لهذه الخرجة غير المسبوقة لأحد أعضاء  الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين وقيادي في حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية. فبقدر ما سرني أن يتحدث “أبو زيد” عن التطوير والاجتهاد واستحضار المتغيرات التي يعرفها الواقع- لكون هذا الطرح يسير في الاتجاه الذي دافعت عنه (رغم أني لست متخصصا لا في العلوم الدينية ولا في العلوم الاجتماعية) في مقال بعنوان “الإرث في الإسلام بين الفهم الجامد والفهم المتجدد للنص القرآني” (انظر جريدة “الاتحاد الاشتراكي” ليوم 20 نونبر 2015)-، بقدر ما أجد في هذه الدعوة – بفعل عدة عوامل، ومنها مواقف الهيئات التي ينتمي إلى قيادتها (حركة التوحيد والإصلاح و”البيجيدي”)، كالموقف الهجومي على تقرير المجلس الوطني للحقوق الإنسان حول”وضعية المساواة والمناصفة”-، نوعا من المصادرة على المطلوب؛ وهو ضرب من المغالطة، يرمي إلى الالتفاف حول القضية المطروحة، دستوريا وواقعيا وحقوقيا، بهدف الهيمنة والاستحواذ على المشهد السياسي .

فبعد الجدل (وأتحدث عن الجدل وليس عن السب والشتم والقذف والتكفير الذي مارسه البعض) الذي فجَّرته دعوة الكاتب الأول،في تساوق تام مع مقتضيات الدستور الجديد ومع متغيرات الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمرأة، إلى فتح النقاش حول مسألة الإرث، وبعد توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الموضوع، انسجاما مع منطوق الفصل 19 من دستور فاتح يلويوز 2011، أصحبت مسألة الإرث والخوض فيها قضية رأي عام، وأساسا السياسي والحقوقي منه.

وإذا استحضرنا الظرف الحالي (سنة 2016، سنة انتخابات) وتمعنا في النقد الذي وجهه “أبو زيد”، من جهة، لوجهة النظر “التقليدية” التي تُغيِّب المتغيرات التي يعرفها الواقع وترفض الاجتهاد والتطوير (سبحان مبدل الأحوال)، ومن جهة أخرى، وجهة النظر “العلمانية” التي يصفها بالتطرف ويزعم أنها تدعو إلى إلغاء أحكام الشريعة جملة وتفصيلا (في حين أن الأمر يتعلق بفصل الدين عن السياسة، حتى لا يتم التوظيف السياسي للمشترك الجمعي، من قبل هذه الجهة أو تلك)، نتبيَّن جيدا الهدف الأساسي من وراء هذه الدعوة.

فـ”أبو زيد” يُخطِّئُ الرؤيتين (المتناقضتين والمتطرفتين) معا، ليضفي على رأيه الجديد نوعا من الوسطية، حتى يضمن له قدرا من الجاذبية والمصداقية لدى فئات واسعة من النساء والرجال. ولإرضاء الخواطر ودغدغة العواطف وكسب ود الرجل والمرأة معا، لا بد من بعض المقدمات (أو البهارات) تضفي مسحة أخلاقية على خطابه حول مراجعة منظومة الإرث (تلك المراجعة التي يفرضها الواقع بفعل ما طرأ على المجتمع المغربي من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية وسياسية)؛ وهكذا، يعتبر “أبو زيد” أن “المجتمعات الإسلامية معروفة بقيم الشهامة والتكافل، لكن اليوم المرأة تقوم بما يقوم به الرجل، من عمل ونفقة ورعاية، وبالتالي فمن الظلم أن تبقى منظومة الإرث دون تغيير”.

وعلى كل، فلم تكن المنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات (وهذا شأن كل المنظمات التي تدافع عن حقوق النساء)- اللائي وصفهن قبيح الوجه وعديم الأخلاق والمروءة، “أبو النعيق” (وأعوذ بالله من الاسم الفسوق) بأقذع النعوت وأقبحها، وقذفهن في شرفهن وهن المحصنات؛ مما يجعل ادعاءه الدفاع عن القرآن والسنة محل شك وريبة، ويدل على أن ثقافته الدينية ناقصة ومعيبة(قذف المحصنات من كبائر الذنوب)- ترغب في أكثر من رفع الظلم عن المرأة في مسألة الإرث وفي غيرها من القضايا، حين طرحت في مؤتمرها الوطني مراجعة أحكام الإرث؛ أما الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي- الذي أهدر دمه ذاك الشخص الذي لا يكف عن الزعيق، ولا ينفع  البلاد في شيء، بل يتهدد الوطن في أغلى ما يميزه، ألا وهو الاستقرار-  فيكفيه فخرا أنه، بدعوته السالفة الذكر، قد حرك البركة الآسنة و”استفزَّ” ليس فقط العقول المتحجرة والمنغلقة، التي يعيش أصحابها في “كهوف” الماضي السحيق، بل وأيضا العقول المتفتحة التي تعي وتعيش حاضرها وترنو إلى المستقبل من خلال هذا الحاضر.

وسواء انجلى السر وراء صمت شيوخ الفتنة أم لم ينجلِ، وسواء وثقنا في مصداقية طرح “أبي زيد” أم لم نثق، فإني أجد في رأيه الجديد نوعا من الإنصاف ونوعا من الاعتراف بصدقية ومصداقية الطرح الاتحادي، وكذا الإقرار بفشل محاولات النيل من الاتحاد بسبب مطالبته بمراجعة أحكام الإرث. ويمكن القول بأننا ربحنا الرهان بأن أصبح مطلبنا مشاعا ومشروعا بحكم الواقع والدستور والمنطق.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

أوجار بين الحكامة و السندان

الملك يريد عملية إحصائية للسكان بمناهج خلاقة

الحكومة المغربية تهرب التشريع المالي

المستقبل يبدأ من … الآن من أجل نَفَس ديموقراطي جديد