أولا: البنية التنظيمية الوظيفية
ثانيا: البنية التنظيمية المنفتحة
ثالثا: البنية التنظيمية المتصلة
أفرزت المسيرة النضالية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تجربة تنظيمية غنية ومتميزة، مكنت القوات الشعبية ببلادنا من التوفر على حزب سياسي يساري، ديمقراطي، منظم، يسهر على تأطير المواطنين، ويفرز النخب والكفاءات، ويبلور المشاريع، ويتخذ المبادرات، سواء من موقع المعارضة أو الحكومة، وهي تجربة أبدعت على امتداد أكثر من ستين سنة، صيغا وآليات كفيلة بتحقيق التوازن الضروري بين المناعة الذاتية والانفتاح المجتمعي، بين النضالي الميداني والكفاءة المعرفية، بين الوجود في الحكومة والمعارضة. ولعل أهم ما يمكن أن يجعلنا اليوم معتزين غاية الاعتزاز بهذه التجربة التنظيمية العريقة هي أنها وفرت لنا سبل الصمود والبقاء رغم كل التحديات التي مر بها حزبنا، ورغم كل التقلبات التي عصفت بالكثير من الأحزاب اليسارية في العالم.
وإذا كان الاتحاد الاشتراكي قد تمكن طيلة هذه المدة التاريخية من الحفاظ على استمراريته كفاعل أساسي في الحياة السياسية بالمغرب، فذلك راجع بالأساس الى قدرته على ملاءمة بنيته التنظيمية مع مختلف التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، ذلك أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ المذكرة التنظيمية التي أعدها الشهيد عمر بن جلون سنة 1965 كخطاطة مرجعية ورائدة لهيكلة التنظيم الحزبي وتدبير شؤونه الداخلية، لم يجعل من هذا التنظيم على مر العقود بنية جامدة أو منغلقة، بل كان حريصا على أن يؤسس لتجربة تنظيمية منفتحة ومتجددة في مسايرتها للتطورات السياسية والمجتمعية ببلادنا، وكما قال الزعيم عبد الرحيم بوعبيد في التقرير الذي قدمه باسم المكتب السياسي عند افتتاح المؤتمر الوطني الرابع للحزب «فليس هناك منهج تنظيمي دائم وصالح للتطبيق في كل الظروف، وهذا يعني أن الدروس المستوحاة من التجربة هي التي ستبقى رائدنا في هذا المجال، فإذا أصبحت المقتضيات غير ملائمة لتقوية التنظيم فيجب العمل على تغييرها وتكييفها».
هكذا وسيرا على نهج عبد الرحيم بوعبيد في نبذ الدغمائية الإيديولوجية والتنظيمية، لم يتردد الحزب في إلغاء مبدأ المركزية الديمقراطية عندما اقتضى الأمر ذلك، ولم يتردد في إلغاء آلية لجنة الترشيحات وتعويضها بمبدأ الترشيح الفردي على أساس الاقتراع المباشر، كما بادر إلى إرساء الأجهزة الجهوية، وإلى اعتماد لجنة الأخلاقيات، وتخلى عن شكل الخلية كوحدة تنظيمية أساسية ليعوضها بالتنظيمات القطاعية، ولجأ الى اعتماد قاعدة المحاصصة في التمثيلية النسائية (الكوطا) على صعيد أجهزته التنفيذية والتقريرية وكذلك على صعيد المهام الانتدابية، ولم يتردد في دمقرطة آلية انتخاب الكاتب الأول، واعتماد تعددية الترشيحات لهذه المسؤولية، ولم يتردد الحزب أيضًا عندما استدعت الضرورة ذلك، في اعتماد تقنيات التناظر المرئي (vidéoconférence) في عقد اجتماعاته، وتوظيف مختلف تقنيات البريد الالكتروني في تواصله الداخلي.
لذلك فإن الاتحاد الاشتراكي مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاستثمار الأمثل لكل طاقاته الفكرية وخبراته الميدانية، من أجل تحديث هياكله وآليات اشتغاله، حتى يتمكن من مواصلة إنجاز مهامه النضالية في المراحل المقبلة بمزيد من النجاعة والفعالية، فمما لا شك فيه أن مستقبل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سيبقى رهينا بمدى تجاوبه مع تطلعات الأجيال الصاعدة في المجتمع المغربي، ومدى ثقة الناخبين في خياراته الأساسية، ولكن أيضا بمدى قدرته على ملاءمة نموذجه التنظيمي مع الأنماط الجديدة للمشاركة المواطنة، ومع الأساليب الحديثة في التأطير الحزبي و التعبئة السياسية.
إذا كانت قيم الثقة و الوفاء، و سلوكيات الصمود والتضحية و الانضباط، واذا كانت آليات الاستقطاب العمودي، ومحورية الجهاز ومركزية القرار، شكلت ملامح تاريخية للنموذج التنظيمي الذي أفرزته التجربة الاتحادية طيلة العقود الماضية، والذي كانت غايته العملية هي تحصين الذات، وتصليب الأداة، في ظل ظروف استثنائية معروفة، فإن توسيع مشاركة القواعد الحزبية، والتزام الانفتاح والشفافية والفعالية، وتثمين الكفاءة والمردودية، وربط المسؤولية بالمحاسبة ينبغي أن تشكل اليوم وغدا الملامح الأساس للنموذج التنظيمي المنشود، الذي أصبحت تفرضه مختلف التحولات المجتمعية والتكنولوجية، التي ما فتئت تؤثر الأثر البليغ في الكثير من الأنماط التنظيمية المؤطرة للفعل السياسي.
في هذا السياق أكد الكاتب الأول للحزب الأخ ادريس لشكر في كلمته أمام المجلس الوطني المنعقد في 20 نوفمبر 2021 على ضرورة استشراف المؤتمر الوطني الحادي عشر لصيغ تنظيمية جديدة أكثر ملاءمة لمنطق العصر ولمتطلبات الفعل السياسي المنتج، ودعا اللجنة التحضيرية الى »بلورة اقتراحات كفيلة بتجاوز أعطابنا التنظيمية،، وإرساء دعائم نموذج تنظيمي جديد أكثر فعالية وملاءمة، لإنجاز مهامنا السياسية المستقبلية».
لقد أجمعت المناضلات والمناضلون سواء في مناقشات الندوة الوطنية حول المسألة التنظيمية، أو في مداولات اللجنة التنظيمية المنبثقة عن اللجنة التحضيرية، على أن الكثير من أساليب تنظيمنا وآليات اشتغال أجهزتنا، أصبحت اليوم متجاوزة وعديمة الفعالية بفعل تطورات المنظومة السياسية ببلادنا، وأيضا بفعل التحولات التي طرأت على مفاهيم الالتزام السياسي والتواصل المؤسساتي والتعبئة النضالية.
فلا يمكن أن نستمر في التعاطي اللامؤسساتي مع مفهوم العضوية في الحزب، بما يجعل هذا الحزب «ملكا مشاعا» بين الناس، وبما يختزل الانتماء اليه في انتساب ضبابي يخول لصاحبه حقوقا مستدامة بدون واجبات مترتبة.
لا يمكن أن نستمر اليوم وغدًا في انتخاب أجهزة حزبية مجالية بدون وظائف ميدانية واضحة، وبدون برامج تعاقدية قابلة للتنفيذ والمساءلة، وبدون أجندات تداولية مضبوطة ومحترمة.
ولا يمكن للقواعد الحزبية في الفروع والأقاليم أن تستمر في تحمل تكاليف فتح مقرات حزبية، لا تتوفر على ميزانيات مرصودة، و مواصفات لائقة بالعمل المؤسساتي، ولا ترقى إلى ما توفره أبسط منصة إلكترونية من إمكانيات هائلة التواصل والتعبئة السياسية.
ولا يمكن أن نستمر في إذكاء ذلك التوتر المفتعل بين المناضل والكفاءة، وبين الناشط الحزبي والفاعل الانتخابي، وبين المشاركة والمعارضة، وبين المسؤولية والمحاسبة.
ولا يمكن أن نستمر في التردد أمام استيعاب وإدماج ما تتيحه الثورة الرقمية من إمكانات هائلة للعمل السياسي على مستوى التنظيم والتعبئة والتواصل. إننا لا يمكن أن نتصور حزبا يتمتع بوجود وازن في المنظومة السياسية، ومؤثر في النسيج المجتمعي، بدون أن يتوفر على أداة تنظيمية فاعلة ومتجددة، وإذا كنا نعتز كحزب عريق بأداتنا التنظيمية غاية الاعتزاز، باعتبارها بيتنا المشترك ومؤسستنا الحاضنة التي من خلالها نعبئ ذكاءنا الجماعي، وننقل رسالة نضالنا من جيل لجيل، فإننا في نفس الوقت نتطلع إلى تطوير هذه الأداة وتنمية قدراتها وعصرنة أساليب اشتغالها بما يعطيها نفسًا جديدا، يتيح لنا خلال المراحل المقبلة مزيدا من التمكين والفعالية، في مواصلة إنجاز مهامنا الحزبية من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
معلوم أن فاعلية الحزب السياسي كمؤسسة وسيطة بين الدولة والمجتمع تتوقف على مجموعة من العوامل الأساسية، يمكن أن نذكر منها:
توافر الخصائص المؤسساتية في الحزب: وهي العناصر البنيوية التي تعتبر من المؤشرات الأساسية لفعالية الحزب، كقدرته على الاستمرارية بعد ابتعاد أو اختفاء قيادته، ودرجة تشعبه التنظيمي، وقدرته على الوصول الى قطاعات واسعة من المجتمع، وتمكنه من بناء قاعدة شعبية صلبة في عدة مواقع مجالية، فضلا عن درجة تماسكه التنظيمي وتجانسه السياسي واستقلاليته المؤسساتية .
الأداء الوظيفي للحزب : تقاس فاعلية الحزب كذلك على أساس مدى تمثله الواضح للوظائف المنوطة به ومدى قدرته على إنجازها، من قبيل التعبير عن مصالح المواطنين وتأطيرهم، والنهوض بمهام التواصل المجتمعي والمشاركة السياسية، كما يمكن قياس فاعلية أداء التنظيم الحزبي بمدى قدرته على تدبير الأزمات، وعلى استقطاب أسئلة المجتمع،وعلى التكيف مع مختلف التحولات الفاعلة في محيطه.
قيام الحزب بتنمية قدراته الذاتية: حيث تتحدد فاعلية المؤسسة الحزبية بمدى التزامها بتنمية قدراتها المختلفة، أي بمدى حرص القيادة على تحديد نواحي الضعف والقصور ومحاولة معالجتها، بحيث يمكن قياس مدى فاعلية الحزب التنظيمية بمدى قدرته المستمرة على توسيع وتنويع العضوية في صفوفه، وبمدى قدرته على تقوية تفاعله مع البيئة المحيطة به.
انطلاقا من هذه الخطاطة المرجعية بشأن فاعلية التنظيم الحزبي، واستنادا الى منهجية استقراء التجربة الاتحادية في جانبها التنظيمي، واستلهاما لما توصلت اليه العلوم الاجتماعية من خلاصات نظرية حول نشوء وتطور ظاهرة التنظيم الحزبي في الديمقراطيات التمثيلية، يمكننا ملامسة بعض الخصائص البارزة للنموذج التنظيمي الاتحادي كما رسخته التجربة النضالية خلال العقود الأخيرة.
هناك أولا عاملان أساسيان متداخلان لعبا دورا حاسما في تشكيل الملامح الرئيسية لهذا النموذج، العامل الأول يرتبط بخصوصية النشأة، ويعود إلى التشكل الأصلي للحركة الاتحادية متعددة الروافد، والعامل الثاني يخص استمرار الحزب في المعارضة لفترة تاريخية طويلة الأمد.
عامل النشأة:
معلوم أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يكن من الأحزاب التي تنشأ بمجرد اجتماع مؤسسيها، وتقديم قوانينها وأعضاء هيئاتها المسيرة الى السلطات، لقد نشا الاتحاد تدريجيا بتدرج نضال الشعب المغربي، وتنوعه واجهاته، حيث كان مؤسسوه في نفس الآن منخرطين في كفاحات التحرر الوطني من اجل الاستقلال، وفي التأطير النقابي للطبقة العاملة، وفي قيادة النضال من أجل الديمقراطية، وكان لابد للحزب الذي جسد في نشأته استمرارا لحركة التحرير الشعبية أن يتحمل النتائج الإيجابية والسلبية المترتبة عن اختلاف المكونات الاجتماعية والأيديولوجية لهذه الحركة، وعن تناقضات شكلها التنظيمي ومناهجها في التفكير والعمل، و بالرغم من أن التقرير الإيديولوجي الصادر عن المؤتمر الاستثنائي كان حريصا على الاعتراف بهذه التناقضات الفاعلة في دينامية التنظيم الحزبي، وأكد على ضرورة خلق الشروط الذاتية والموضوعية التي ستمكن من التوضيح والتنظيم اللازمين لتجاوز تلك التناقضات، فإن انتقال الحركة الاتحادية من تيار شعبي جارف إلى حزب سياسي منظم لم يكن سهلا، وإنما شكل مسار تحول عسير بمخاضات مؤلمة، كان له الأثر البليغ في تشكيل ملامح النموذج التنظيمي للحزب، وهذا ما سيؤكده الزعيم عبد الرحيم بوعبيد في التقرير السياسي الذي قدمه باسم اللجنة التحضيرية أمام المؤتمر الاستثنائي عندما قال: «لعل البعض سيلاحظ علينا أن منظمتنا تحتضن عناصر جد متنوعة، بل متعارضة، الشيء الذي يعوقها عن تكوين قوة سياسية قادرة على مواجهة الصعاب والشدائد. ومع ذلك فإن حزبنا استطاع أن يصمد أمام عدد من المحن التي لم تزده إلا قوة في إيمانه، وقوة في عزيمة مناضليه». إن اعتزاز القادة الاتحاديين وفي مقدمتهم عبد الرحيم بوعبيد بقدرة الحزب على الصمود وقوة إرادته النضالية، لم يكن يخفي قلقهم إزاء الصعوبات التي يطرحها بناء حزب معاصر بأداة تنظيمية فعالة و متجانسة.
تكفي الإشارة بخصوص هذه الصعوبة إلى أن الاتحاد ظل لمدة 16 سنة، أي منذ تأسيسه سنة 1959 إلى حين انعقاد المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 بدون قائد، حيث لم يكن مفهوم القيادة الجماعية المتمثلة في الأمانة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلا مبررا لشرعنة ذلك التوازن العالق بتعدد القادة، بل ولتكريس الأمر المتمثل في ذلك الصراع الخفي على الزعامة، وعلى من يسيطر على جهاز القيادة الوطنية، بحيث لم تكن صيغة القيادة الجماعية في الثقافة التنظيمية للاتحاد الاشتراكي إلا تسترا على صعوبة انبثاق كاتب أول للحزب من قيادة تعددت روافدها الثقافية من الحركة الوطنية إلى حركة المقاومة وجيش التحرير إلى الحركة النقابية. كما تجدر الإشارة في نفس السياق إلى أن مختلف التصدعات التي عاشها الحزب تاريخيا في علاقته مع ثلاث مركزيات نقابية، إضافة إلى توالي عدد من الحساسيات التي خرجت من صلبه في محاولات يائسة لتشكيل بدائل سياسية وتنظيمية، فضلا عن ذلك التوتر الملحوظ في انتقال المسؤولية من قائد لآخر، حيث نجد من بين خمس كتاب أولين تناوبوا تاريخيا على قيادة الحزب، لجأ كاتبان أولان للتنحي عن المسؤولية (عبد الرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي)، ولم يعش الاتحاديون إلا مرة واحدة طيلة تاريخ حزبهم مشهدا احتفاليا لتسليم السلط بين كاتب أول منتهية ولايته (الراضي) وكاتب أول منتخب (لشكر)، هذا على الصعيد المركزي فقط، أما إذا بحثنا في المستويات الإقليمية فسوف نجد كثيرا من مظاهر الأزمة التنظيمية المستدامة، والناتجة عن خصوصية النشأة وتجاذبات مكوناتها.
عامل المعارضة:
لقد استمر الاتحاد الاشتراكي في موقع المعارضة لحوالي 36 سنة متواصلة، كان لها بدون شك أثر واضح في تشكيل ثقافة تنظيمية تنهل من مفردات الصمود والتحدي والحذر والانضباط، حيث أنتجت الحقبة التاريخية المعروفة بسنوات الرصاص وضعا استثنائيا بالنسبة للحزب، ومارست عليه ضغوطا هائلة جعلت استراتيجيته في النضال الديمقراطي في مفترق طرق بين إرادتين، إرادة الحفاظ على نقاء الهوية والاحتماء بالذات التنظيمية، وإرادة الانفتاح على تحولات المجتمع والانخراط في مسار تطور المنظومة السياسية. ومما لا شك في أن التجاذبات القوية بين هاتين الإرادتين أدت إلى بروز اختلافات متعددة في تقدير بعض القضايا وفي تحديد أجوبتها، وأحيانا كانت هذه الاختلافات تمضي في حدتها إلى أن تصيب الأجهزة الحزبية التقريرية والتنفيذية بنوع من الشلل والانتظارية، فإذا اقتصرنا فقط على المؤتمر الوطني كأعلى جهاز قيادي سنجد أن الاتحاد الاشتراكي لم يعقد مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 إلا بعد 13 سنة من مؤتمره الثاني، ولم يعقد مؤتمره السادس سنة 2001 إلا بعد مرور12 سنة على مؤتمره الخامس. لا شك أن اضطرار الحزب إلى التموقع طويل الأمد في المعارضة، وتركيز الجهود على تحصين ذاته وتمنيعها، ساهم إلى حد بعيد في جعل التنظيم غاية وليس مجرد وسيلة، وساهم في تكريس محورية الأجهزة الحزبية التي تحولت في الظروف الاستثنائية الضاغطة إلى بنيات موجودة لذاتها ولا تشتغل غالبا إلا بذاتها، بمعنى أن الانشغال ببناء التنظيم وإعادة بنائه، وبتدبير أزمات التنظيم وحل مشكلاته، استمر أحيانا على نفس المنوال حتى خلال فترات الانفراج السياسي وتوسيع هامش الحريات، إلى أن أصبح الاشتغال بالتنظيم يستغرق من الوقت ومن الجهد ما كان يجدر صرفه في الاشتغال بالمجتمع وقضاياه الأساسية. هذا فضلا على أن تقلص مساحات التمثيلية في المؤسسات المنتخبة، وتعرض المناضلات والمناضلين لأشكال من التهميش والإقصاء في الإدارات العمومية، جعل التنظيم هو المجال الحيوي الوحيد للإبداع ولتحقيق الذات وتصريف الطاقات، فضلا على أن العضوية في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال سنوات الرصاص كانت تتم عن شجاعة ونكران للذات، أما تقلد المسؤولية في جهاز من أجهزته فإنه مبعث فخر واعتزاز، وهذا ما يمكن أن يفسر تلك الجاذبية التي تمارسها على المناضلات والمناضلين فرصة تكليفهم بتحمل المسؤولية في الأجهزة الحزبية وارتقاؤهم في مراتبها التنظيمية، حيث يمكن القول إن التنظيم في حد ذاته كان قادرا على إنتاج أوضاع اعتبارية تشكل مجالا حيويا للتدافع والتنافس بين المناضلين، وفي بعض الأحيان في تجاوز تام للضوابط التنظيمية ذات الصلة.
بناء على هذه المعطيات المرتبطة بعامل النشأة متعددة الروافد، وعامل المعارضة طويلة الأمد، يمكن أن نخلص إلى أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية استطاع أن يطور أداته التنظيمية، ويلائم آليات اشتغالها مع تحولات المجتمع وتطوراته السياسية، غير أنه لحد الآن لم يستطع الانتقال إلى نموذج تنظيمي جديد يتناسب مع ثقافته السياسية ومشروعه المجتمعي، إذ لا زال يشتغل من داخل نفس النموذج الذي أدى مهمته التاريخية ولم تعد آلياته تتلاءم مع متطلبات العمل السياسي في مغرب اليوم، فما هي إذن الملامح الأساس للنموذج التنظيمي المنشود ؟
أولا: البنية التنظيمية الوظيفية:
إذا كان التنظيم وسيلة للفعل السياسي في المجتمع، وليس غاية في ذاته، يتعين أن يتحرر من النزعة الجهازاتية، التي تركز عمليا وحتى في النظام الأساسي والقانون الداخلي للحزب على الجهاز وآليات ولوجه وكيفيات اشتغاله، وخصوصا الجهاز التنفيذي، مما يستدعي تخفيفا لمظاهر الثقل المكتبي والتنميط الجهازاتي، حيث تخضع الكتابات والمكاتب لنفس الاليات، وتستنسخ بعضها في جميع المستويات: نفس مدة الانتداب، ونفس المهام داخل كل جهاز، سواء كان مكتبا للفرع أو كتابة إقليمية أو جهوية، حيث توزع نفس المهام، حتى ولو لم تكن لها وظيفة أو معنى، كوجود أمين المال بدون موارد مالية. لذلك يتعين وضع إطار تنظيمي يعطي مكان الصدارة للأجهزة التقريرية أكثر من التنفيذية، وذلك من خلال الآليات التالية:
على غرار الكاتب الأول، يقترح كتاب الجهات، الفروع، والأقاليم المنتخبون لائحة أعضاء المكاتب للتصويت عليها.
يتقدم المترشحون لتولي مسؤولية كاتب الفرع أو الإقليم أو الجهة ببرنامج تعاقدي ينتخبون على أساسه ويحاسبون مع فريق عملهم على انجاز التزاماته.
تستغرق ولاية مكتب الفرع سنة، والكتابة الإقليمية سنتين والكتابة الجهوية ثلاث سنوات.
ثانيا: البنية التنظيمية المنفتحة:
يتعين أن يقطع النموذج التنظيمي الجديد مع تلك الثنائية المفتعلة بين المناضل الحزبي والفاعل الانتخابي، وأن يرتكز في ذلك على المزاوجة بين الشرعية التنظيمية والشرعية الانتخابية، بما يتيح إدماج المنتخبين الاتحاديين في مختلف المؤسسات المنتخبة، ضمن الحياة الحزبية المحلية والوطنية، وذلك عبر أجهزتها التقريرية والتنفيذية. كما يتعين القطع مع تلك الازدواجية المصطنعة بين المناضل والكفاءة، من خلال خلق بنيات استقبال داخل التنظيمات الحزبية تكون مفتوحة لكل الكفاءات، من أجل إنجاز المهام المتعلقة بإعداد السياسات القطاعية والتقارير التشخيصية على صعيد الجهات والأقاليم، كما يسهر المكتب السياسي على تفعيل مؤسسة المشروع وفق تصور جديد يليق بمؤسسات البحث والتكوين.
ثالثا: البنية التنظيمية المتصلة
لا يمكن استشراف نموذج تنظيمي جديد للحزب بدون استحضار الإمكانات الهائلة التي أصبحت تتيحها الثورة الرقمية لفائدة الأحزاب السياسية في مجالات التنظيم والتعبئة والتواصل، وذلك بما تتيحه التكنولوجيا الرقمية من مزايا السرعة والفعالية والشفافية في إنتاج المعلومة ومعالجتها وتخزينها وتقاسمها. لقد حقق الاتحاد الاشتراكي مكتسبات مهمة بخصوص قدرة قواعده الحزبية على التحكم في تقنيات التناظر المرئي من أجل عقد اجتماعاته عن بعد في ظل احترام التدابير الاحترازية التي فرضتها الأزمة الوبائية، وعليه أن يتوجه مباشرة بعد مؤتمره الحادي عشر الى جمع وتعبئة ما يتوفر عليه من طاقات وكفاءات متنوعة في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وذلك من أجل وضع استراتيجية حزبية لإدماج الثقافة الرقمية وتقنياتها في أساليب اشتغاله وطرائق تواصله.
تعليقات الزوار ( 0 )