نظم المركز العلمي العربي بالرباط مؤخرا، ندوة فكرية في موضوع “الاحزاب السياسية المغربية بين التحديث والتقليد”، بمشاركة عبد الحي المودن، ومحمد الساسي، وفوزية الأبيض، وعبد السلام الطويل. وقد كان اللقاء، في جلستيه، من تسيير محمد سبيلا ومحمد تملدو.
محمد سبيلا أكدأن لهذا الموضوع حيويته وراهنيته وحدّته. فالتحديث والتقليد مطروح اليوم في الحقلين السياسي والفكري، وتلحقه العديد من التساؤلات انطلاقا من نوع من المفارقة التي تسم الموضوع نفسه. فالحزب السياسي تنظيم لا يندرج في صفوف التنظيمات القائمة على القبيلة أو العرق أو اللون أو الدين، بل هو تنظيم اجتماعي. فنظريا الحزب السياسي هو شكل تنظيمي حديث وعصري. ولذلك يبقى السؤال هو إلى أي حد يستجيب الحزب لماهيته الأصلية ولروحه العميقة؟ وإلى أي حدّ تجرفه المحددات الاجتماعية المختلفة؟ وإلى أي حد نقول إن التقليد يتلبس بالتحديث داخل الحزب السياسي؟
بهذه الأسئلة أطر سبيلا محاور الندوة التي تدخل فيها بداية عبد الحي المودن، مؤكدا أن علاقة الأحزاب بالتقليد والحداثة سؤال طُرح منذ عدة عقود في سياقات مختلفة. فهل الأحزاب السياسية حداثية أم تقليدية؟ الجواب عن هذا السؤال، حسب المودن، يتطلب إبراز أهمية تلك السياقات. فالحداثة تضم جوانب مختلفة سوسيولوجية وسياسية وفكرية. فحين ننظر إلى الحداثة في شموليتها نكون أمام قضايا غير واقعية، كما هو الشأن بالنسبة لكل المفاهيم الكبرى. فما يحدث هو بروز بُعد من أبعاد الحداثة. لكن السؤال الذي اعتبره المتدخل أهم من غيره هو: هل الدولة حداثية أم تقليدية؟ وكان الجواب عن هذا السؤال الذي طرح منذ بدايات الاستقلال هو أن الدولة تقليدية، والبديل عن تقليدانيتها هو الأحزاب التي اعتبرت نفسها حداثية. إذن، حسب هذا التحليل، الدولة ارتبطت بالتقليدانية فيما ارتبطت الأحزاب بالحداثة.
لكن الذي ظهر بعد عقود من الصراعات، يضيف المودن، هو أن الدولة ليست تقليدانية مطلقة، ونفس الشيء بالنسبة للأحزاب، إذ ظهر أنها ليست حداثية بشكل كامل. الجانب التقليدي في الدولة هو المخزن والمؤسسات الموروثة التي تبلورت في فترة زمنية سابقة، كما أنها (الدولة) تعتمد على أفكار قديمة، مثل الدين الذي هو فكرة قديمة. لكن بعد دراسات قيّمة تناولت الأحزاب السياسية، تبيّن أن الحزب السياسي الذي يعتبر نفسه تنظيما حداثيا هو في العمق جزء من هذه البنية التقليدية. فهو سجين الدولة التي تتحكم في تحالفات الأحزاب وفي انشقاقاتها كي تحافظ الدولة نفسها على استمراريتها. لذلك لابد من التأكيد، في الوضع المغربي، أن الحزب يولد حداثيا لكنه يبقى منجذبا ومشدودا إلى بنية ثقافية تقليدية.
وانتقل المودن إلى فكرة ان الأحزاب السياسية هي صوت الطبقات. فالأحزاب اليسارية المعارضة هي صوت الطبقة الشغيلة أو البورجوازية المتوسطة أو البورجوازية الوطنية. هذا هو الجانب الحداثي في هذه الأحزاب، يقول المودن. إضافة إلى أنه توظف مفاهيم جديدة هي نتاج دراسات ونظريات سوسيوسياسية حديثة على رأسها الماركسية. لكن كان لابد من ظهور بعض المعضلات التي افترضت العديد من الأسئلة المحيّرة: الدولة التقليدية لم تسقط، بل استمرت وأعادت إنتاج نفسها رغم الأزمات التي واجهتها. لكن يتساءل المتدخل: لماذا؟ وكيف؟ فهذان السؤالان مازالا يواجهان الفكر السياسي الآن. والجواب الذي قدمه المودن هو الآتي: الدولة التقليدية استمرت لأن فكرة التقليد مستمرة. وحتى هذا التفسير ظل عاجزا وغير مقنع. والسؤال الآخر: ما هي الأسباب التي دعت إلى استمرار أزمات الأحزاب السياسية؟ فقوتها مفتتة، والانشقاقاتالمتتالية ساهمت في إضعافها.
وخلص المودن إلى أنه لا يمكن الحسم في هذا القضايا. فالدولة تقليدية نسبيا، لأن هناك مظاهر للحداثة في الدولة، كما أن هناك مظاهر التقليدانية في الأحزاب السياسية.
وتدخل محمد الساسي في محور “الأحزاب السياسية المغربية بين التحديث التنظيمي والحداثة السياسية”. وقد بدأ تدخله متسائلا: هل التحديث التنظيمي والحداثة السياسية متلازمان؟ هل هناك تراجع للحداثة السياسية؟ ليجيب جازما أن هناك تحديثا تنظيميا، وهناك تطورا تنظيميا مظاهره: انتخاب القادة، انتظام المؤتمرات، تزايد حقوق العضو الحزبي، اللجوء إلى القضاء في حالة المساس بنظامية الحزب، تسيير المالية الحزبية بطرقة شفافة. بعدما كان الجهاز التنفيذي في الماضي هو من يتحكم في الحزب، وكانت المؤتمرات غير منتظمة، فبعض المؤتمرات عقدت على مسافة زمنية بلغت عشرين سنة عن آخر مؤتمر. كما أن الماضي كان يشهد اللجوء إلى لجنة الترشيحات لاختيار القادة. وفي الماضي أيضا كانت المعارضة تُعيّن بظهير، فالملك الراحل الحسن الثاني استقبل حزب التجمع الوطني للأحرار وعيّنهم في المعارضة. كما كان القائد هو منيتصرف في مالية الحزب.
واليوم، يقول الساسي، نلاحظ أن هناك أشياء كثيرة تغيرت إيجابيا، خصوصا على مستوى التحديث التنظيمي، لكن هناك العديد من المشاكل التي تطرأ مع حلول موعد الانتخابات.
وانتقل الساسي إلى الحديث عن الحزب الحاكم “العدالة والتنمية”، ولاحظ الاختلاف بين خطاب بنكيران كرئيس للحكومة وبين وثائق حزب “العدالة والتنمية”. فقول بنكيران “الله أمرنا بأن نطيع الملك” لا علاقة له بالخط السياسي للحزب.
وأكد أيضا على دور الصحافة المستقلة التي تلعب دورا كبيرا في تنوير الرأي العام. إضافة الى انتظام الانتخابات التي هي لحظة حرية للمناضلين الحزبيين ولحظة “سيبة” بالنسبة للدولة. ومن بين مظاهر التحديث الحزبي ظهور وافدين جدد، مما أوجد مناخا من التنافسية بين الأحزاب السياسية.
إن الأمر الذي ينبغي التأكيد عليه، يقول الساسي، هو أنه لا وجود لحزب في المغرب يمكن أن ينفلت من ضغط التيار العام. كما أن الرأي العام أصبح رقيبا يقظا. ثم لا ينبغي تجاهل قوانين منعت الترحال، وفرضت المحاسبة المالية، فاختلاس ماليةالحزب هو اختلاس للمال العام. وخلص المتدخل في النهاية، بعد تحليل العديد من البنيات الحزبية، إلى وقوع تقدم تنظيمي وتراجع التحديث.
أما فوزية الأبيض، الباحثة الاجتماعية والبرلمانية عن حزب الاتحاد الدستوري، فقدمت مجموعة من الأفكار التي همّت مسألة تأسيس الحزب قانونيا، وحضن وزارة الداخلية الذي ينطلق منه الحزب السياسي في المغرب. وعن دور المعارضة كآلية للرقابة. وتساءلت: هل فعلا حرصت الأحزاب السياسية المغربية على بلورة الفكر الديمقراطي وتجسيده على أرض الواقع؟ فأكدت على أن للأحزاب السياسية أهمية بليغة في التربية على الحوار والمواطنة والتفكير البناء من أجل تبنّي برنامج إصلاحي وتقديم مشروع مجتمعي. إضافة إلى إيجابية التعددية الحزبية التي تحفز على التنافسية في تقديم البرامج. لذلك فالأحزاب السياسية هي تعبير عن نبض المجتمع، تؤكد المتدخلة.
وانتقلت الأبيض إلى الحديث عن التيار الليبرالي في المغرب، إذ هناك أحزاب كانت تريد فرض الحزب الواحد. وذكرت موقف الزعيم علال الفاسي القائل: “الله وحّد المغرب حول ملك واحد وحزب واحد”. وعندما ظهر الحزب الشيوعي المغربي كان حزب الاستقلال وراء صدور قرار منعه. لكن ذلك المنع تبين أنه لم يكن في صالح دولة كالمغرب. وبذلك كانت فكرة الليبرالية وراء منح المغرب فرصة للحوار مع الغرب، ومع المد الشيوعي الذي كانت تتزعمه روسيا.
وانتقلت الأبيض إلى الحديث عن ليبرالية الإسلاميين. فالحزب الحاكم بعد فشله في قضايا التشغيل بدأ يتحدث عن المبادرة الفردية والتشغيل الذاتي. هذا إضافة إلى صراعاته الداخلية بين تيار إسلامي متشدد وتيار علماني. بل إن قيادة هذا الحزب بدأت تضغط على الأصوات الداخلية التي تنادي بالتغيير والمراجعة.
وتدخل عبد السلام الطويل في موضوع “الأحزاب المغربية بين التقليد والتحديث: العدالة والتنمية نموذجا”، بادئا مداخلته بموقف هذا الحزب من المرأة وتحررها، ومن العلمانية. وأكد المتدخل أنه أجرى عدة حوارات مع قادة “العدالة والتنمية” قبل الربيع العربي، تحديدا في سنة 2007، ولمس أن هناك استعدادا للمشاركة في السلطة مهما كان الثمن. وأكد أن الأحزاب السياسية المغربية تظل محكومة بنفس البنيات الذهنية، وبنفس القوة التي تجذبها إلى التراث. فالمغرب مجتمع تقليدي فُرض عليه التحديث، وهذا مأزق تاريخي لابد من الخروج منه، يؤكد الطويل. فأي حزب في مثل تركيبة المغرب لا يمكنه أن يحدث تحولا نوعيا، أو أن يؤثر في بقية النسق السياسي إلا إذا حاز على نصابين: تمثل التوجه الفكري والسياسي الذي يتبناه، وأن يؤسس للحد الأدنى من الاستقلالية الاقتصادية والسياسية عن الدولة. فمثلا حزب يجد صعوبة في تسييرجريدته وتمنح له حقيبة وزارة الاتصال والإعلام، فهذه مفارقة كبرى. فمن عجز عن تدبير جريدة كيف يمكنه النجاح في تدبير قطاع الإعلام؟ وخلص الطويل إلى كون الحداثة السياسية تفترض عقلنة السلطة، بحيث يصبح مصدر الحكم إنسانيا. لذلك أفقد الأداء الحكومي حزب “العدالة والتنمية”، الشيء الكثير من قوته. لكنه حزب استطاع الاستفادة من أخطاء بعض الحركات الإسلامية في السودان ومصر وسوريا والجزائر. واستفاد أيضا من إيجابيات الأحزاب السياسية في تركيا وماليزيا.
تعليقات الزوار ( 0 )