عبد الحميد جماهري
كان شكيب بنموسى يدرك جيدا وهو يستقبل الأحزاب السياسية، أنه أمام مشروعية قائمة الذات، سواء باسم التاريخ أو باسم الانتخاب أو باسم التسلسل الديموقراطي، من القاعدة إلى القمة.
لهذا ألح على أن الاستماع للأحزاب يتأتي من قوة وجودها، وقوة أدوارها في بلورة السياسة الوطنية، ومنها التفكير، ضمن مشروعيات أخرى، في النموذج الوطني…
وكان بنموسى واعيا للغاية ومتواضعا وشجاعا، في الوقت ذاته، عندما ألمح إلى تخوفات الناس، المواطنين، من عمل لجنته.
ومصدر التخوفات تلك يكمن في طبيعة تكوينها وأيضا في نوعية التقرير المنتظر منها….
أما طبيعة تكوينها، فقد يؤاخذ على موردها البشري أنه تقنوقراط عالم، بعضه لا علاقة له باليومي المغربي، ولا بالمعيش اليومي للمغاربة.
وقد يذهب آخرون إلى القول إن جزءا من عمل اللجنة قد يتم في مؤسسات دولية تقدم الوصفات لما تعتبره تنمية أو تفوقا اقتصاديا أوغيره، كما هو حال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والذي يملك، ولا شك، طاقات فكرية وتدبيرية أهم من الكثير من أعضاء اللجنة المحترمين، أو في مستوى بعضهم…
وأما من ناحية تقريرها الذي سترفعه إلى ملك البلاد بعد نهاية أشغالها، فقد يعاب عليه أنه تقرير إضافي إلى تقارير أخرى سبقته، تحذوه رغبة في النجاح ولا شك، بيد أنه قد يسقط في التكرار أو الالحاقية، أي يكون تقريرا يضاف إلى تقارير سبقته……
هناك سؤال من صلب النموذج، عبرت عنه قيادة الاتحاد الاشتراكي: نحن نمثل نموذجا في الدائرة العربية الإسلامية، والعالم الثالث ( يبدو أن العبارة مازالت صالحة لتوصيف جزء من العالم)، غير أننا لا يمكن أن نكون نموذجا إذا كنا عاجزين عن التطور، تماما كما هو الحال عندما نتحدث عن الاستثناء المغربي، فهذا الأمر لا يمكن أن يكون معقولا، إلا إذا لم نعد استثناء في العرف الديموقراطي والمعايير الكونية للقيم الديموقراطية والسياسية والحقوقية المتعارف عليها كونيا…
ويجب الإقرار أيضا أن سلطة القرار لا بد لها من تموقع، بشكل مضاعف،إيجابا، من الأحزاب:
أولا، رفع يد الدولة عن الحياة الحزبية، وبالتالي الإيمان العميق باستقلاليتها وقدرتها على العيش بدون موجبات السقوط أو النجاح الخارجة عن قدرتها الذاتية، ثانيا، الإيمان العميق بقدرتها على الفعل والإيمان بدورها كقاطرة ديموقراطية لا يمكن أبدا البحث عن بدائل لها، أو بدائل منها للعب دور غير دورها……
الدولة، من حقها، بل من واجبها، أن تعقلن اللعبة السياسية وترشد الكتل الحزبية وتعقلن التاريخ عموما، كما يرى ماكس فيبر ذلك، حول الاستراتيجيات الوطنية ورسم الثوابت والحفاظ عليها، واستباق الأوضاع الصعبة، كما في الربيع العربي إياه، لكنها مطالبة بالإيمان بقدرة الأحزاب على الحياة بدونها……
أحيانا يكون سقف الأحزاب، ليس في كليتها طبعا، أقل من سقف الدولة، كما شاهدنا في قضية المرأة وطي صفحة التاريخ وغير ذلك، وهذا يبرر استباقيتها وجرأتها وإرادتها في فتح التاريخ على أحسن الاحتمالات، وهو ما يطرح على الأحزاب تجاوز نفسها.
غير أن للأحزاب في قضية النموذج التنموي أن تعرِّف الدولة، وسنكون هنا أمام تقديرات مختلفة في نوعية الدولة التي يدافع عنها هذا الحزب أو ذاك أمام اللجنة: هناك من يعتبر أن الدولة لا بد لها من أن تتراجع إلى الوراء وتفرغ الساحة، في الوقت الذي يرى آخرون، ونحن منهم، أن هناك طلبا متزايدا على الدولة من طرف المواطنين، وهو ما يجعل الدولة الحامية موضوع إشكال حقيقي، لا يمكن أن نغطي عليه بمسألة القيم مثلا: مواطن بهوية مغربية تستبيح الليبرالية المتوحشة كل قيم الهوية الوطنية والمواطناتية منه!
لقد تحملت الأحزاب الكثير عن وطنها، أقصد الأحزاب التي تخندق نفسها في مشروع وطني ديموقراطي تقدمي، وتحملت الكثير من أجل تعريف محدد للوطن، وللدولة وطبيعتها، ولا يمكن أن نخلط الأدوار بين من ضربوا ومن هربوا!
من المحقق أن الإفراط في مناقشة طبيعة اللجنة، هو من باب التفريط في المؤسسات، هناك هشاشة مؤسساتية لا تخفى على العين، ولو كانت البناءات المؤسساتية قوية (البرلمان برلمان، الحكومة حكومة وهيئات الحكامة كما يجب لها أن تكون)، لما كنا في حاجة إلى الاجتهاد في ما هو، دستوريا، واضح..
والإفراط في حديث الطبيعة التي تعنيها اللجنة، قد يضيع علينا جزءا مهما من النقاش، وهو ما الذي ستتمخض عنه، وكيف سنقرأه وقتها؟
وهذا هو المهم اليوم في التعامل مع الوضعية التي خلقتها لجنة بنموسى ومن معه….
الأحزاب الجدية استبقت أسئلة اللجنة، حول النموذج الحزبي القادر على استقطاب اهتمام الناس وتعبئة القوى الحية وتقدير صحيح لمقومات التماسك داخل الأمة، ولا يمكنها أن تعفي نفسها من سؤال النموذج الذاتي، وقدرته على العمل…
المؤسسة الحزبية، التي تعد أرقى أشكال الانتماء والتنظيم، بعد الوطن طبعا، محور تفكير متشائل-أي متفائل ومتشائم في الوقت نفسه-، تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة..يمكن للجنة، كمكون وطني، أن تطرح أسئلتها والتفكير بها، كما هو حال كل المواطنين الفاعلين ..وكل الهيئات، بما فيها المجالي وهيئات الحكامة ومراكز استطلاع الرأي والبحث….
وهو جوهر آخر من الديموقراطية التي نريدها أقوى…
تعليقات الزوار ( 0 )