محمد إنفي

يقتضي تقييم أي عمل، كيفما كان نوعه أو مجاله، القيام بتشخيص دقيق لكل المعطيات وكل الحيثيات الذاتية والموضوعية المتعلقة بالعمل المراد تقييمه. والتقييم يروم، في النهاية، وضع حكم معين أو إعطاء قيمة معينة لعمل ما (أو لشيء ما) بناء على مقارنات ومعايير موضوعية تسمح بالحكم على هذا العمل وتقدير مدى النجاح أو الفشل في الوصول إلى الأهداف المسطرة له أو المرجوة منه.

وحين يتعلق الأمر بتقييم الانتخابات، فإن هذه العملية تكون من التعقيد بمكان بسبب كثرة وتعدد العوامل المتدخلة في الاستحقاق الانتخابي من حيث الإعداد والتنظيم والإشراف والإنجاز… فالقوانين الانتخابية ولوائح الناخبين والتقطيع الانتخابي ونمط الاقتراع والأجندة الانتخابية والجهة المشرفة… كلها أمور أساسية وحاسمة في نتائج أي استحقاق انتخابي، سواء كان عاما أو مهنيا. ونجاح (أو فشل) الاستحقاق يتوقف على هذه العوامل؛ ذلك أن سلامة الانتخابات من سلامة العوامل المؤطرة لها والمؤثرة فيها، خاصة وأن الأمر يتعلق بتنافس بين أطراف متعددة، مصالحها متناقضة وتربيتها السياسية (حتى لا نقول شيئا آخر) متباينة وتشبع بعضها بالديمقراطية يكاد يكون منعدما…

غير أن ما يهمني، في هذا المقال، ليس هو تقييم الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة في ضوء العوامل التي ذكرناها في الفقرة أعلاه (لقد سبق لي أن كتبت عن هذا الموضوع؛ كما سبق للقيادة الاتحادية أن عقدت ندوة صحفية، طعنت، خلالها، سياسيا، في  نتائجها)، بل تقييم النتائج التي حصل عليها الاتحاد الاشتراكي في هذه الانتخابات. والأصح، فإن ما يهمني ليس هو التقييم في حد ذاته، بل منهاج التقييم، خاصة وقد كثرت الإسقاطات وعمت الأحكام المتسرعة، بما فيها البريئة والمغرضة.

لن أقوم بقراءة النتائج التي حصل عليها الاتحاد وتحليلها؛ فتلك مهمة لجنة الخبراء والمختصين التي كونها المكتب السياسي لهذا الغرض. كما أن الأستاذ “عبد السلام المسوي”- الذي قدم قراءة وتحليلا شموليين لحصيلة الاتحاد الاشتراكي في مقال رصين نشر بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” في حلقتين (يومي 26 و27 أكتوبر 2015 ) بعنوان ” في الحاجة إلى قراءة هادئة لحصيلة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة”- قد كفاني مؤنة الخوض في الكثير من التفاصيل والوقوف عند العديد من الأسباب والبحث (أو الإسهاب في البحث)  في جملة من العوامل الذاتية والموضوعية التي أدت إلى الوضع الحالي.

وسوف لن يكون هذا المقال المتواضع إلا اختزاليا، وفي أحسن الأحوال، مكملا لمقال الأستاذ “المسوي”، أو متكاملا معه. ثم إن الغرض منه ليس هو القيام بتقييم النتائج التي حصل عليها الاتحاد، وإنما المقصود، أساسا، هو القيام بقراءة سريعة ونقدية للكتابات والمواقف المتهافتة، وبالأخص المتحاملة منها على الاتحاد الاشتراكي (دون أن نهمل الكتابات والتحاليل الرصينة حول نفس الموضوع).

وربما يكون من الأفيد، في هذا الصدد، أن نبدأ بالنظرة التجزيئية في تقييم حصيلة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة. ونقصد بالنظرة التجزيئية تلك التي تقف عند النتائج ولا تنظر في الأسباب القريبة والبعيدة لتلك النتائج .

وتوخيا لأكبر قدر من الموضوعية، نقسم أصحاب هذه النظرة إلى صنفين: صنف يتكون من المناضلات والمناضلين والمتعاطفات والمتعاطفين (الصادقين والمخلصين، طبعا) الذين تعتصر قلوبهم حزنا وكمدا على النتائج غير المرضية التي حصل عليها حزبهم في الانتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 شتنبر 2015. لذلك، تجدهم – كلما أتيحت لهم الفرصة للتعبير عما يخالج صدورهم (في جلسات التقييم، مثلا)- يبكون حزبهم ويندبون ما يعتبرونه حظه العاثر. ولا يمكن الشك أو التشكيك في صدق وصدقية هؤلاء؛ ذلك أن نظرتهم التجزئية ليست مقصودة لذاتها؛ وبالتالي، فهي ليست مغرضة، وإنما هي مجرد رد فعل لحظي وعاطفي، لا يتم، في الغالب، تجاوزه، لعدم امتلاك أصحابه لأدوات التحليل الموضوعي.

أما الصنف الثاني فيتكون من فئات مختلفة، لا يجمع بينها سوى الرغبة في التلذذ بجلد الاتحاد الاشتراكي والتحامل على قيادته. لذلك، تجد أن “تقييماتهم” (تجاوزا) التجزيئية تتسم بكثير من الخبث؛ ذلك أن البعض منهم (كمن يقتل القتيل ويمشي في موكب جنازته) لا يتورع عن التباكي على الوضع الحالي للاتحاد ولسان حالهم يطفح بالتشفي والشماتة كما يتضح ذلك من خلال اللغة المستعملة (السقوط المدوي، الاندحار، الخ)؛ ويتسابق البعض الآخر على إعلان وفاة الاتحاد مع تدبيج مقالات تأبينية تتجنى على التاريخ وعلى الواقع وعلى العقل والمنطق… وقد وجدت هذه المواقف وغيرها في الصحف التي تدعي الحياد و الاستقلالية وفي المواقع التي”تديرها جيوش الهدم والعدمية”(“المسوي”)، كل الاستعداد والحماسة للانخراط في الحملة المعادية للاتحاد ولقيادته الحالية.

وما كان هذا النوع من الصحافة (الذي جعل من العداء للاتحاد الاشتراكي إحدى سمات خطه التحريري وثابت من ثوابته) ليجد أفضل، لتحقيق أهدافه، من” سادية أولئك الذين عذبوا ودمروا الحزب، من داخل الحزب في فترات مضت وحاليا من خارجه… وهم الآن يتلذذون بطريقة مرضية تستحق الإشفاق والعلاج، وإن كانت حالتهم مستعصية عن كل علاج وإن كان بديلا متهافتا “(“عبد السلام المسوي”، المقال السالف الذكر).

وعكس النظرة التجزيئية (وبالأخص المغرضة منها) في تقييم حصيلة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة، تسمو النظرة الشمولية عن ردود الأفعال اللحظية والعاطفية وعن الإسقاطات الذاتية، فتتجه إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ضعف الحصيلة؛ ذلك أن النظرة الشمولية تبحث في الأسباب الخفية والظاهرة، المباشرة وغير المباشرة، وتبحث في العوامل الذاتية والموضوعية، وفي الأسباب السياسية والاجتماعية…؛ مما يجنبها الأحكام المتسرعة والسقوط في السطحية التي تؤدي، حسب الحالات، إما إلى التهجم المجاني وإما إلى التبرير الفج.

فحين يكتب الأخ “عبد السلام المسوي”، في قراءته الهادئة لحصيلة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة، التي أشرنا إليها آنفا، (“لنتفق مبدئيا، لا أحد من المناضلات والمناضلين الاتحاديين طبعا، سرته نتائج 4 شتنبر وما ترتب عنها في الجماعات والجهات ومجلس المستشارين… لا أحد تقبلها بارتياح.. الكل غاضب والكل محبط.. ولكن لنتفق أيضا، بالرغم من مشاعر الانزعاج والغضب والقلق… وبالرغم من الجروح والآلام التي أحدثتها فينا هذه النتائج البئيسة، فإنها مع ذلك لم تفاجئنا ولم تصدمنا.. إن ما حدث اليوم لم يكن صدفة ولم يكن وليد اللحظة.. نتائج اليوم لها امتدادات سببية في الأمس البعيد والقريب”)، فإنما يعطي الدليل على رفضه السقوط في النظرة التجزيئية التي تقف عند النتائج وتبني، انطلاقا منها، أحكامها، سواء كانت هذه الأحكام مغرضة أو غير مغرضة.

وحين يقول الأستاذ “محمد الطوزي”، في حوار مع جريدة “الاتحاد الاشتراكي” (الثلاثاء 9 سبتمبر 2015): “إن الاتحاد الاشتراكي، رغم المشاكل الداخلية التي عاشها، استطاع أن يصمد في هذه الانتخابات”، فهو، هنا، يقدم تقييما لنتائج الاتحاد من موقع تخصصه كخبير أكاديمي متميز في مجال علم الاجتماع السياسي؛ وبالتالي، فإن نظرته لن تكون إلا شمولية وموضوعية. ولحكمه على هذه النتائج  قيمة علمية كبيرة بالنظر لعلو كعبه  في مجال تخصصه. لذلك، أرى أن حكمه يختزل كل القراءات الممكنة لوضع الاتحاد الاشتراكي في المشهد السياسي المغربي الحالي.

وأود أن أضيف مثالا ثالثا لنظرة شمولية (لم ينشر منتوجها بعد لكونه لا زال قيد الإنجاز: قراءة أولية) تعتمد، في تقييمها، على  الأرقام الرسمية للانتخابات الأخيرة وعلى القراءة السوسيولوجية للوضع السياسي العام. وصاحب هذه النظرة هو الأستاذ “عمر بنعياش”، الباحث والمتخصص في علم الاجتماع (جامعة محمد الخامس، الرباط).

باختصار شديد، فقد اعتبر الأستاذ “بنعياش” النتائج التي حصل عليها الاتحاد في الانتخابات الأخيرة إيجابية بالنظر، من جهة، إلى التحولات التي يعيشها المغرب  على جميع الأصعدة، ومن جهة أخرى، إلى الإسرار على تسفيه العمل السياسي في البلاد لفسح المجال أمام الفاشية الجديدة.  فالحملات الممنهجة على الاتحاد الاشتراكي، تاريخا وفكرا وقيادة (حملات تشهيرية وتشكيكية)، هدفها هو محاولة استئصال الاتحاد الاشتراكي من المجتمع؛ وذلك لأسباب سياسية وتاريخية وسوسيولوجية.

أمام هذه النماذج الثلاثة (وهي فقط أمثلة) للقراءة الشمولية (أصحابها متخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية) لحصيلة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة، والتي اختزلتها إلى حد كبير، تبدو القراءات المغرضة لهذه الحصيلة ليس فقط تافهة ومتهافتة وضحلة… بل وأيضا حقيرة وبئيسة وخسيسة… إذ كيف يستقيم الحديث عن السقوط المدوي والاندحار وما إلى ذلك من الألفاظ الغليظة، والحزب قد استطاع، رغم كل المشاكل الداخلية المفتعلة والدسائس الظاهرة والخفية، أن يُثَبِّت وجوده في الساحة السياسية؟

صحيح أنه انتقل من الرتبة الخامسة إلى الرتبة السادسة. لكن صحيح أيضا أن الدسائس والتطلعات الشخصية المبالغ فيها أفسدت على الاتحاديين فرحتهم بنجاح التمرين الديمقراطي غير المسبوق الذي عاشوه بمناسبة المؤتمر الوطني التاسع للحزب (إشراك المواطنين في الحملة الانتخابية للمتنافسين على الكتابة الأولى؛ وذلك بواسطة برنامج تلفزيوني واسع الانتشار على القناة الثانية، قدم خلاله كل مرشح تصوره وبرنامجه التنظيمي والسياسي؛ انتخاب الكاتب الأول، من بين أربع مرشحين من عيار ثقيل، في دورتين…)؛ إذ ليس هينا ما تعرض له الحزب من حملات إعلامية مخدومة ومن نزيف داخلي غير مبرر وغير مفهوم.

ولا يمكن تفسير ما حدث إلا بأحد أمرين: فإما أن الديمقراطية لا تعني – للذين اختلقوا ذريعة التيارات (مع العلم أنهم لم يطرحوا المسألة  لا في اللجنة التحضيرية ولا في المؤتمر) وأسسوا ما سمي بتيار “الانفتاح والديمقراطية” الذي تحول إلى مشروع حزب  (حزب البديل الديمقراطي)- إلا الفوز؛ وفي حالة حصول العكس، فإنهم يرفضون نتائج التصويت الديمقراطي ويختلقون من أجل ذلك الأسباب والمبررات (ويدخل في هذا الباب حتى من تحركهم الأحقاد والضغائن: لقد تابعنا كيف أن الحقد الذي يكنه البعض إلى الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، الأستاذ “إدريس لشكر”، قد دفع بهم إلى الاصطفاف في التيار أو على الأقل إلى الانخراط في الحملة التي تستهدفه، وكأن استهداف الكاتب الأول لا يستهدف الحزب)؛ وإما أن الحملة على الاتحاد الاشتراكي، وبواسطة من كانوا ينتمون إليه- سواء كانت بدعوى التدخل الخارجي في نتائج المؤتمر أو بدعوى الدفاع عن استقلالية القرار أو بدعوى رفض الكاتب الأول للتيارات (وهو افتراء مفضوح ومكشوف)-  تنخرط في مؤامرة كبرى ضد الحزب، هدفها تحجيم العمل السياسي من خلال تقليص التأثير الإيجابي للتمرين الديمقراطي الاتحادي ليس فقط على حزب القوات الشعبية نفسه، بل وأيضا على الأحزاب الأخرى.

أمام كل هذا، يأخذ كلام الأستاذ “محمد الطوزي” (“إن الاتحاد الاشتراكي، رغم المشاكل الداخلية التي عاشها، استطاع أن يصمد في هذه الانتخابات”) كل أبعاده (وينطبق هذا، أيضا، على تحاليل الأستاذ “المسوي” والأستاذ “بنعياش”).

وإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن الاتحاد الاشتراكي لم يتمكن، أبدا، من استرجاع عافيته، لا التنظيمية ولا السياسية، من السقطة الكبرى (المدوية، حقا) التي تدحرج فيها من الرتبة الأولى إلى الرتبة الخامسة في الانتخابات التشريعية لسنة 2007 ، وظل يحتل هذه المرتبة في الاستحقاقات الموالية (الانتخابات الجماعية لسنة 2009 والانتخابات التشريعية لسنة 2011)، فإننا ندرك أهمية ما حققه اليوم، رغم كل المشاكل والعراقيل، الواقعي منها والمفتعل. فصمود الاتحاد وتحقيقه لنتائج إيجابية، رغم محدوديتها، يعتبر إنجازا هاما؛ وقد فاجأ هذا الإنجاز الخصوم (وما أكثرهم !) الذين راهنوا على فشله في الوصول إلى العتبة.

وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الاشتراكي، بصفة خاصة، والبناء الديمقراطي ببلادنا، بصفة عامة، قد تضررا من الخروج على المنهجية الديمقراطية سنة 2002. إننا لا زلنا نعاني من تبعات ذلك إلى يومنا هذا. وحتى يتضح الأمر جليا، نشير إلى أن تراجع الاتحاد بدأ مع الانتخابات الجماعية لسنة 2003، ليتكرس هذا التراجع بشكل واضح في سنة 2007 . ويمكن اعتبار ذلك عقابا له على مشاركته في حكومة السيد “إدريس جطو”.

وبما أن الانتخابات التشريعية لسنة 2007 قد عرفت أدنى مستويات المشاركة في التصويت (37 % حسب النتائج الرسمية) وأعلى نسبة في الأوراق الملغاة، فيمكن تفسير ذلك بكونه احتجاجا على الخروج عن المنهجية الديمقراطية، خاصة وقد ألقى الملك خطابا، في سابقة من نوعها في تاريخ الانتخابات بالمغرب، يحث فيه الناخبين على التصويت بكثافة.

 

خلاصة القول، لقد تضرر الاتحاد كثيرا، سياسيا وتنظيميا (اعتزال الكاتب الأول للحزب، الأستاذ “عبد الرحمان اليوسفي”، للعمل السياسي )، من الخروج عن المنهجية الديمقراطية؛ وتضرر ربما أكثر من المشاركة في حكومة جطو(بعد البيان القوي للمكتب السياسي حول الخروج عن المنهجية الديمقراطية)  بدعوى إتمام الأوراش الكبرى. فهل يستقيم أن يأتي اليوم من استمات في الدفاع عن المشاركة في حكومة جطو(للحفاظ على المنصب)، ليحدثنا عن هزالة النتائج وعن الفشل في الانتخابات الأخيرة؟ هذا، دون الحديث عن أصحاب عقلية “أنا أو الطوفان” أو الذين تحركهم الأحقاد والرغبة في الانتقام أو من سماهم “المسوي” “جيوش الهدم والعدمية”.

تعليقات الزوار ( 0 )

مواضيع ذات صلة

أوجار بين الحكامة و السندان

الملك يريد عملية إحصائية للسكان بمناهج خلاقة

الحكومة المغربية تهرب التشريع المالي

المستقبل يبدأ من … الآن من أجل نَفَس ديموقراطي جديد